الجاسوسية والصحافة
حينما بدأت حياتي المهنية فـي الصحافة، كنت أؤمن إيمانًا مطلقًا بأن القلم يمكن أن يكون أداة لإيصال الحقيقة وكشف الغموض، ولكن مع مرور الوقت بدأت بعض القناعات تنزاح شيئًا فشيئًا حيث إن الحقيقة فـي هذا المجال ليست دائمًا مجردة وأن الصحافة قد تصبح بقصد أو بدون قصد غطاءً لأجندات خفـية يستغلها البعض لتحقيق مآرب خبيثة، هذا الواقع المعقد دفعني لتساؤل متى تكون الصحافة نزيهة؟ ومتى تتحول إلى أداة تجسس تخدم مصالح معينة؟
قبل يومين قرأت تقريرًا نشرته منصة مينت برس، أُثير جدل واسع حول دور رافـي بيرغ، رئيس تحرير قسم الشرق الأوسط فـي هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن دوره فـي إظهار انحياز تغطية البي بي سي الإخبارية لصالح الرواية الإسرائيلية فـي حربها التي تشنها ضد قطاع غزة وفـي لبنان وسوريا واليمن، من خلال التحكم فـي النصوص والعناوين والصور لتتماشى مع وجهة نظر محددة، فـي مقابل إقصاء متعمد للروايات الفلسطينية وصور المعاناة الإنسانية.
الحديث عن انحياز التغطية لصالح طرف معين على حساب آخر يعيد إلى الأذهان تساؤلات قديمة إلى أي مدى يمكن أن تكون الصحافة حرة؟ ومتى يمكن التفريق بين الصحافة الحرة والإعلام الحر وبين الإعلام الموجه والمتحكم به من قبل مجموعات قد تكون مدسوسة وتخدم أجندات وبرامج سياسية تخدم أطماع دول أخرى؟
ارتباط الجاسوسية بالصحافة ليس بالجديد؛ فالتاريخ شاهد على الكثير من الممارسات الصحفـية اللا أخلاقية خصوصًا فـي أوقات الحروب والنزاعات حينما لا تستطيع الآليات العسكرية التوغل والوصول إلى الطرف الآخر فـي حين أن الصحفـي والمراسل يستطيع تحقيق ذلك من خلال طبيعة عمله التي تتيح له فـي بعض الأحيان الوصول إلى نقاط الصراع من الطرفـين ونقل ما يجري من أحداث عسكرية إلى الطرف الآخر، ففـي تقرير للجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي أن أكثر من ٥٠ صحفـيًا خدموا سرًا كعملاء لوكالة المخابرات المركزية خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفـييتي حين كان قانون الاستخبارات يتيح تجنيد الصحفـيين كعملاء بعد الحصول على الموافقة اللازمة لذلك.
وفـي السياق ذاته، يسرد الصحفـي الفرنسي باتريك دونو فـي مذكراته «الصمت سيحرسك» تجربته كجاسوس تحت غطاء العمل الصحفـي. اعترافاته تكشف تفاصيل عمله كعميل للاستخبارات الفرنسية فـي مناطق الصراع مثل أفغانستان، ولبنان، والعراق وليبيا. يقول دون: «كانت الصحافة مهنتي، لكنها أصبحت غطائي».
فـي منطقة الشرق الأوسط المعروفة بتعقيداتها السياسية وتشابك مصالحها الإقليمية والدولية، كانت وما زالت ساحة خصبة لعمليات التجسس خاصة تلك التي تتخذ من الصحافة غطاءً لها. ففـي ظل الحروب والنزاعات التي شهدتها المنطقة على مر العقود، كانت هناك قصص لا تحصى عن صحفـيين غربيين قدموا لتغطية الأحداث، لكنهم فـي الواقع كانوا يسعون لجمع معلومات حساسة أو تصنيفها ضمن تقارير سرية. من أبرز الأمثلة على ذلك، اعتقال السلطات الإيرانية لجيسون رضائيان، الصحفـي الإيراني الأمريكي الذي عمل فـي صحيفة «واشنطن بوست». وجهت إليه تهمة التجسس بعد اتهامه بجمع معلومات سرية حول البرنامج النووي الإيراني. ورغم ادعائه أنه كان يؤدي عمله كصحفـي، إلا أن اعتقاله فـي عام 2014 جاء بمثابة تأكيد على توتر العلاقة بين الصحافة والجاسوسية. قضى رضائيان أكثر من عام فـي السجن قبل أن يُفرج عنه ضمن صفقة تبادل أسرى.
ولا يتوقف الأمر عند إيران، فقد شهدت العديد من الدول العربية قصصًا مشابهة، حيث تم الكشف عن صحفـيين غربيين استغلوا طبيعة عملهم للوصول إلى معلومات مصنفة بالغة السرية. هؤلاء الصحفـيون عادة ما يندمجون فـي بيئة العمل الصحفـي، متظاهرين بتغطية فعاليات اقتصادية أو ثقافـية، بينما تكمن مهمتهم الحقيقية فـي جمع معلومات استخباراتية.
تعد الصحافة وسيلة مهمة لتوثيق الأحداث ونقل الحقيقة، لكن استغلالها كأداة للتجسس يهدد مصداقيتها ويُثير تساؤلات حول أخلاقيات المهنة وفـي كثير من الأحيان تستغل الصراعات الإقليمية والدولية لتبرير هذه الممارسات، حيث تُجنّد وكالات الاستخبارات صحفـيين لتحقيق أهدافها، وقد أدى هذا إلى تزايد الشكوك تجاه المراسلين الأجانب، خاصة فـي المناطق التي تعاني من اضطرابات سياسية أو عسكرية. تظل العلاقة بين الصحافة والجاسوسية علاقة شائكة ومتشابكة، تشكل تحديًا كبيرًا لمهنة الصحافة التي يفترض بها أن تكون صوت الحق والشفافـية، وبينما تتداخل المصالح وتتغير الأولويات، يظل الصحفـي الحقيقي هو من يلتزم بقواعد المهنة وأخلاقياتها، بعيدًا عن أي استغلال أو انحراف عن رسالته الأساسية، فالصحافة ورغم كل التحديات التي تمر بها، تظل أحد أعمدة التعبير الحر، لكنها مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالحفاظ على مصداقيتها، حتى لا تتحول من ناقل للحقيقة إلى أداة فـي يد المصالح الخفـية.