التوحش الثقافي والاستحمار

05 يونيو 2024
05 يونيو 2024

في الحياة كما في الروايات والأفلام والمسلسلات، هناك قضايا رابحة وأخرى خاسرة. قد تبدو مسألة الفوز والخسارة نسبية هنا ومتعددة، فهذه قضية رابحة أكاديميا يحصل بموجبها الأكاديمي على منصب مرموق نظير تبنيه لموقف ما ودفع طلابه باتجاهه؛ أما زميله فيخسر مقعده الأكاديمي لتبنيه موقفا آخر، ولنا في المظاهرات الطلابية في أمريكا وأوروبا مثال حي. وهذا سياسي يختار القضايا التي تهم الناس لا لإيمانه بها؛ إنما لينتخبوه ويصل إلى الكرسي الوثير واللقب اللامع ليتخلى عن مَن أوصلوه بعد ذلك، وهناك من يخسر منصبه لدفاعه عن حق أو وقوفه في وجه الظلم كما حدث لعدد من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية لاعتراضهم على دعم حكومتهم للإبادة الجماعية في غزة. فقد يخسر الإنسان إذن مقعده الأكاديمي أو السياسي، إذا ما ناقض مموليه ومشغِّليه، وقد يخسر تجاريا -المقاطعة أنموذجا- وفقا للطرف الذي يناصره والجانب الذي ينحاز إليه. لكن كيف نختار الجانب الفائز دائما؟ وهل ذلك ممكن؟.

يتبنى كثير من الناس بطريقة عملية وناجعة مبدأ الفوز في كل شيء تقريبا، ولكن لكل شيء ثمنه؛ وكي يكون المرء في الجانب الفائز دوما فعليه أن يتبنى مواقف معينة، ويسلك سلوكا معينا يوقعه لا محالة في شراك التعارض الصارخ مع الدين، المبادئ الأخلاقية، الإنسانية، أو حتى الوفاء للوطن والأمانة، في تعارض مع واحد من هذه الأعمدة أو معها كلها!. فكي يفوز المرء دائما، لا بد أن يكون كائنا يشبه الحرباء تتكيف وتتلون حسبما تقتضيه المصلحة وأينما تجري رياح الفوز، أما المتمسك بمبدأ فسيجد من يخالف ذلك المبدأ بغض النظر عن خطئه وصوابه. في الهواتف الذكية خاصية تتيح لمستعملها عرض الذكريات والصور وفقا لليوم أو الشهر أو الحالة الجوية لدى التقاط تلك الذكريات، وللإنسان بصفته كائنا يعيش على هذه البسيطة تاريخه وأرشيف ذكرياته المرقوم في كتبه ؛ فيكفي أن يقلب المرء صفحات كتاب تاريخي ليقرأ سيرورة الربح والخسارة الماديتين أو المعنويتين. ففي الخسارة المادية، يرى الإنسان المادي الموت خسارة فادحة؛ بينما يراها المؤمن فوزا وشهادة. وفي حين أن المادي يرى خيانة الوطن فوزا نظير حفنة من المال أو تسهيلات وميزات يتلقاها من المحتل، فإنها خسارة عظيمة وفق كل الشرائع والمبادئ الإنسانية العامة في الشرق والغرب.

في ضوء هذا كله نجد جرّاحا للأمة أو الوطن يُعمِل في الناس مِبضَعَه من دون تخدير، وهو مبضع ناجع وفعّال حتى وإن ظهرت نتائجه بعد فترة من الزمن؛ وهو ما يحدث غالبا. فهذا الجرّاح الماهر، قد يمتد أثر مبضعه لقرون لا لفترة بسيطة فحسب، فهناك من يستعمل نظرياته وهناك من يقتبس من أعماله وهناك من يتأثر به في شتى مناحي الحياة؛ إنه المثقف. وفي فترة تاريخية حرجة يشاهد فيها المرء بغير حول منه ولا قوة إبادة صارخة وصريحة ولا يستطيع إيقافها إيقافا فوريا، يتفاجأ بأن يجد مِن بني جلدته، بل من يدعي الإنسانية يبرر الإبادة ويراها حدثا عاديا، مبرئا المجرم، ومساويا بينه وبين الضحية!.

في القرن الماضي، ذهب الفيلسوف والأكاديمي الفرنسي المعاصر ريجيه دوبريه إلى بوليفيا في عمل صحفي، لينتهي به الأمر في السجن وقد لفقت له السلطة آنذاك تهما بانضمامه إلى الثوار. شاهد في سجنه وحبسه المآسي تلو الأخرى، وليس آخرها فريق المخابرات الأمريكي الذي كان يتدخل في ذلك البلد اللاتيني تدخله في شتى بقاع العالم، ليكتب بألم وحسرة «..طالما أن العالم هو ما هو عليه، فإني لا أتمنى أن أموت في فراشي». وفي تلك الفترة من الظلم والاضطهاد الذي لحق تلك البلدان المسحوقة آنذاك، كان لعدد من المفكرين الأثر في تغيير أحوال تلك البلدان التي أصبح بعضها في مصاف الدول العظمى إثر الإصلاحات والنضال على مدى أجيال. وفي جانب آخر من العالم، يحدث أن تجد مجموعة من المثقفين الذين يضعون مبضعهم لا ليستأصلوا الزائدة الدودية من الأمة، بل ليقطعوا الأمعاء فتموت الأمة ببطء. ولا أعني بمصطلح الأمة هنا المصطلح ذو البعد الديني فحسب بل ببعديه الجغرافي والعِرقي، ونحن نعيش في منطقة ساخنة متربّصٌ بها من شتى الاتجاهات.

يتجلى التوحش الثقافي في التطرف القاتل المتمثل في إقصاء الآخر والتسفيه برأيه ونقده نقدا لا يبت للموضوعية بصلة، مع استعمال مبالغ فيه لمصطلحات مثل الرجعية والتخلف والعصور الحجرية وما شابهها لدى الحديث عنه أو إليه؛ وهو توحش يضرب جذور الثوابت ليوهمنا بأن هنالك ثوابت أخرى، الثوابت التي يريدها هو. فـ«عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحد للصلاة، والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، هو الاستحمار، وإن كان عملا مقدسا. وقوفا في الصلاة، أو انشغالا بمطالعة أحسن الكتب العلمية والأدبية، أو مناجاة مع الله؛ وأي شيء تنشغل به في هذا المجال، يفيد أن المسبب قد استعمرك. وإن أي جيل ينصرف عن التفكير في «الدراية الإنسانية» كعقيدة واتجاه فكري، ومسير حياتي، وتحرك مداوم إلى أي شيء حتى ولو كان مقدسا، هو استحمار. وقد لا يدعوك الاستحمار إلى القبائح والانحرافات أحيانا، بل بالعكس، قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر أنت بها، وهنا يغفل الإنسان، ويتجه نحو جمال العمل، ولطافته غافلا عن الشيء الذي ينبغي أن يَعِيه، وهذا هو الاستحمار من طريق غير مباشر.«من كتاب النباهة والاستحمار لعلي شريعتي». وإن الدعوة إلى تجاهل الإبادة سواء في غزة أو السودان أو أي مكان آخر، والدعوة إلى استمرائها وإلى الاشتغال بقضايا الهامش كالخلافات الدينية وقال فلان وفعل فلان؛ مما يندرج تحت الاستحمار.

يحمل لواء التوحش الثقافي اليوم ثلة من المثقفين الذين يصفون أنفسهم بالمتنورين، وهم في الحقيقة لا يقلون تطرفا عن المتطرفين الذين يملكون السلاح. فالتنوير الحقيقي يكمن في اتّباع الحق والحقيقة وإن قالها المخالف لي فكريا، بل وإن قالها عدوي ما لم يكن فيها استغفال أو استغباء. وليس أدل على أهمية الاستفادة من معسكر العدو من جماعة المؤرخين الجدد الذين هم يهود مولودون في الأراضي المحتلة «إسرائيل» وقدموا دراسات وأبحاثا وكتبا تعد حجر الأساس في تقويض الاحتلال وآخر معاقل الاستعمار الاستيطاني الصارخ على وجه هذه البسيطة. فهل سنكترث للعدو وبيننا وبينه مسافة آمنة، أم ننتظر اقترابه من الأبواب كي نستيقظ من سكرة التوحش الرعناء، ونتفق ونجتمع على تفكيك وبناء العقل والعقلية السليمة نقديا وتاريخيا وثقافيا في مواجهة الاستعمار الناعم؟