«التوازن» متلازمة الإلهام الأولى
عن ذلك الإلهام الذي يشبه في حقيقته الوحي الخفي الهامس، الذي يهبط عليك على حين غفلة، أو في لحظات الصفاء والتأمل، الذي ينقر على تلافيف عقلك فيخفق لها قلبك، فتعرف أنها فكرة إلهامية ليست ككل الأفكار العابرة العشوائية، التي لا يتوقف العقل عن توليدها طوال اليوم، وفي وقت صحوته، وإن غفى ونام وأطبق جفنيه، فإن سيل الأفكار الجارف سيأخذ شكلا متداخلا متذبذبا من انبعاثات اللاوعي، فيكون الدماغ بذلك قد حافظ على نشاطه على مدار اليوم، إذ أثبتت الدراسات أن توقف العقل عن التفكير يؤدي إلى تراجعه ونكوص قدراته وضمور تلك الخلايا الحسية والتوصيلات العصبية، أو أن يصيبها ما يشبه الجمود.
ولا يقتصر الإلهام وليس حصرًا فقط على تلك الأفكار الإبداعية المتعلقة بالفنون والابتكارات والأعمال المنوطة بتغير مسار التاريخ، بل يكفي أن تكون تلك الأفكار هي حصيلة لجهد بذلته سابقًا فيما مضى لحل مشكلة ما، أو أنها كانت حيرة استبدت بعقلك حول موضوع ما، إلا أنك تعرف جيدًا أنها فكرة بارقة وليست ككل الأفكار، وأنت وحدك فقط من سيشعر بأنها هدية من السماء.
وكثيرة هي تلك القصص حول الإلهامات العظيمة التي حصل عليها أصحابها كهدية مجانية ربانية، أو كحصيلة لاختمار الأفكار في رأسك، بعد أن أنهيت رحلتك في تجميع الأفكار والمزاوجة ما بين التساؤلات والحلول والتطلعات، وباحث عن الأفكار الإبداعية التي تصنع التغيير، كقصة أصغر نابغة في الفنون والشعر، والتي بدأت بتعلم الرسم من تلقاء نفسها في سن الرابعة، لتصل سعر لوحاتها إلى آلاف الدولارات وهي بعمر السادسة، وعندما سئلت عن سر موهبتها، قالت بعفوية طفولية: إن هناك آلهةً يهمس لها ويعلمها الرسم.
وكما قال سقراط: «إن الشعراء وما يكتبونه من قصائد ليس الإلهام وقوى خفية كونية غامضة تعينهم على ذلك»، بينما خالفه أرسطو الرأي ليقول: «ليس الأمر سوى تدريب ومران على مهارة الشعر والفن، وبإمكان الشخص العادي على صف الأبيات الشعرية ونظمها متى ما تعلم ذلك».
إلا أن ذلك الإلهام ومصادره لا يمكن حصره وتحديده بمجالات محددة، كأن نقتصر على القراءة أو السفر أو الانتقال من منصب إلى منصب، أو إنه إلهام لا يأتي إلا على رائحة القهوة، وأصوات تلاطم أمواج البحر، وأمام منظر تلألأ النجوم، بل هو أوسع من ذلك بكثير، ويتعدد بعدد البشر وأكثر، حيث تظل الحرية بجوهرها هي الباعث الرئيسي على ذلك الإلهام، فتكون اختياراتك الشخصية الذاتية هي باعث ومحرك رئيسي لذلك الإلهام، الذي يرتطم بك على حين غفلة.
ذلك الإلهام وأيا كان شكله ونوعه وموضوعه وأهميته، فإنه من خلال التأمل العميق هو محاولة منك لاستعادة التوازن ما بين جوانبك النفسية والجسدية والروحية، فإن حدث ذلك التوازن والاتحاد بين القوى الثلاثة، فإنك ستكون قادرًا على الاستعانة باللاوعي وتلك الأفكار الإلهامية التي تشبه الوحي إلى حد كبير.
فحين تنزوي في مكان هادئ محاولا التحكم في كمية الأفكار وما تجره من مشاعر مختلطة، أو تمشي لنزهة صافية حافي القدمين إلى وجهات غير محددة، أو كان سفرًا أو ترحالًا إلى تلك المناطق التي يسكن فيها الشعوب بعاداتهم الغريبة، أم هي هواية جديدة تتحدى بها قدراتك، فإنك في حقيقة الأمر تسعى لمحاولة استعادة توازنك، لتنسجم لديك قوى العقل والوجدان والإرادة، فتكون قادرًا على استقبال الانبعاثات الإبداعية من الأفكار والمشاعر.
لذا نجد البعض غير قادرين على الإبداع إلا في ظروف خاصة، لا يتنازلون عنها وقد يصابون بالانزعاج والتوتر وانخفاض في مستوى الأداء، ففي حالات الإلهام تستفيق القدرات الفذة والأفكار النيرة من سباتها، فتجد لكل المبدعين طقوسًا خاصة، وقد تكون طريفة لدى البعض وغريبة ومعقدة لدى آخرين، كالمشي حافيا، أو تسلق لأعلى القمم، أو الغوص مع الأسماك أو هي تحديات مستحيلة، أو أن يصل البعض بهم بأن يلهو مع الأطفال، أو يكسر حاجزًا الخوف عن تلك المخاوف الصغيرة التي تختبئ داخل قلبه.
فكل يحاول البحث عن ذلك الثقل الذي سيوازن بين كفتي الجسد والروح، ليكون في تناغم تستفيق من بعده الأفكار الإبداعية من سباتها العميق، وخاصة تلك الأعمال الإبداعية التي تتميز بتفردها وحداثتها وحاجتها الماسة لإعمال عمليات العقل العليا، وليست تلك الأعمال التلقائية اليومية، والتي لا تحتاج سوى مستوى بسيط من التفكير العشوائي.
ولتعرف مصادر الإلهام الذاتية لديك أو كيف تولده، فأن عتبة الباب الرئيسة التي ستضع قدمك عليها خطوة أولى وركيزة أساسية، أن تكون قادرا على معرفة ما أنت عليه وما تحتاجه وما تشعر به، ولا يتأتى ذلك إلا باستسلام وسلام داخلي متوازن، تحاول جاهدًا مرة بعد مرة الوصول إليه لتكون مستحقا لأعلى درجات الإلهام.