التخيلات الجذّابة

28 أغسطس 2024
28 أغسطس 2024

في كتابه «لماذا لا نتعلم من التاريخ؟» يقول بي إتش ليدل هارت: «لا يمكن تفسير التاريخ دون مساعدة الخيال والحدس. إنّ كمَّ الأدلة هائل حتى أن الانتقاء لا مفرَّ منه، وحيث يوجد انتقاء سيكون هناك فن. يميل أولئك الذين يقرؤون التاريخ إلى البحث عمَّا يثبت صحة آرائهم الشخصية ويؤكدها. إنهم يدافعون عن الولاءات، وهم يقرؤون بغرض التأكيد أو الهجوم، ويقاومون الحقيقة المزعجة؛ لأن الجميع يريد أن يكون في جانب الملائكة. مثلما نبدأ الحروب لإنهاء كل الحروب».

يغدو التاريخ البشري مشتركًا أكثر فأكثر كل يوم؛ فقبل قرنين من الزمن لم نكن لنتأثر بما يحدث في اليابان أو ألمانيا أو حتى موريتانيا؛ لكن العالم بترابطه ومنظومته المشتركة اليوم عالمٌ يراهن على بقاء الأمور تحت السيطرة فيما يشبه المنظومة الشاملة، ولا يُلقي بالا إلى أن هذه المنظومة يحكمها اللامنطق والفوضى. قد نعتقد أن شيئا ما حدث لسبب وجيه، لسبب قد يضفي البعض قداسةً عليه لأن الحاكم أو الإمبراطور الفلاني أو حتى العسكري الذي قاد انقلابًا وغدا حاكمًا -كحال نابليون بونابرت- فعله وأمر به؛ لكن الحقيقة قد تكون أن ذلك الحاكم أحب توجهًا ما، فنيًا أو ثقافيًا أو عسكريًا، فاتّجهت الأمة تجاه ما أراده الحاكم في تلك الفترة ورغب به.

إن للتاريخ قداسة عند شعوب العالم أجمع، فيكفي أن تقول حكمةً ما وتنسبها إلى حكيم عاش في الماضي لتغدو تلك الحكمة المنتحلة وساما يتقلده المؤمنون بتلك الشخصية التاريخية وإرثها، يتداولونها ويتوارثونها ويطبقونها في حياتهم كحقيقة مثبتة، ويكفي أن تقول إن البناء الفلاني شُيّد في الحقبة الفلانية لترى الناس تتهافت على مشاهدته والتجول في أروقته، لكن ماذا لو كان التاريخ فكرة؟ هنا يتحول التاريخ من سِجلّ للأحداث والوقائع إلى أداة مهمة بيد السلطة تتحكم به وتسيّره وتغيّر فيه ما تشاء وكما تشاء وحسب ما تقتضيه الظروف.

إنَّ للتاريخ أهميته، نعم؛ ولذلك تنفق عليه الدول أموالًا طائلةً، إما لتثبيت وضع قائم، أو لإنشاء واحد جديد؛ فالتاريخ والسردية التاريخية يخلقان في نفسية المتلقي صفات تتحول إلى أفعال فيما بعد، فتسمية الأشياء بمسمياتها مهمة في طريقة تعاملنا معها، فاستعمال كلمة «مُخرِّب» -على سبيل المثال- جرى تداولها في المستعمرات كثيرا، وهي تشير إلى المقاومين عادةً، ويستعملها المُستعمِر عادةً لتطبيع الكلمة في أذهان شعبه وأمام من يمنحه استمرارية وشرعية البقاء. إن السردية التاريخية قادرة على صنع المعجزات؛ فالنازية بدأت بتجييش الناس بعد المذلة التي تعرضت لها الأمة النازية في الحرب العالمية الأولى، ولكن ليست كل المعجزات خيِّرة بطبيعة الحال. فالظروف التي عاشها الألمان بعد الحرب العالمية الأولى لا يمكن بحال أن يتنبأ أحد بأنها ستصنع ذلك الوحش الرهيب الذي تسبب في حرب عالمية ثانية، وذلك القيام الذي قامت به الأمة الألمانية كان معجزةً؛ لكنها استُعملت في الشر.

تكتسب الأشياء أهميتها بتقادم الزمان، ويُعزى إلى كثير من الأشياء ما لا تطيقه بحال، ومع مرور الأيام تظهر في الطريق إشارات محايدة، يستعملها المناوئون والمحبون على السواء، فالمناوئون يشعرون أنها علامة تعمّق اليأس، والمحبون يرون فيها فجرًا قادمًا، فحين جاء المستوطنون اليهود إلى أرض فلسطين، جاؤوا حاملين معهم رؤاهم التلمودية وأحلام أسلافهم بالعودة إلى أرض الميعاد، لكن من يتحكم بخيوط هؤلاء المساكين الذين تم تلقينهم كذبات جعلت استيطان أرض الفلسطينيين مشروعًا بالنسبة إليهم؛ كان يدرك غور المسألة التي لم يكن للدين علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد، بل هي مسألة سياسية بحتة كان لزامًا أن تُبنى حولها أساطير وخرافات كي تنجح وتتحقق واقعًا.

تتجلى التخيلات الجذّابة في الأمور التي نعتقد أنها صحيحة، لا لأنها صحيحة حقًا؛ بل لأننا نريدها ونتمنى أن تكون صحيحةً كما نعتقد. متى يحدث التخيّل الجذّاب إذن؟ «عندما تكون ذكيًا، وتريد إيجاد حلول، لكنك تواجه مزيجًا من التحكم المحدود والمخاطر الكبيرة. إن التخيلات الجذابة قوية للغاية، وباستطاعتها أن تدفعك إلى تصديق أي شيء». استوقفني هذا الكلام في كتاب «سيكولوجية المال» لمورجان هاوسل، وقارنته بما نعيشه في حياتنا كلها؛ رغم أنه ورد في سياق اقتصادي بحت؛ فالإنسان كائن معقد التركيب، ففي حين يبتهج بفعلٍ شنيع كالقتل والتدمير في لحظة انتشاء موجّهة روحيًا وجسديًا -كحال جنود الاحتلال- فإنه ينكص على عقبيه حين تختفي تلك النشوة ويبدأ العقل بنقد الأفعال؛ لذلك تكثر حالات الانتحار والأمراض النفسية والعقلية عند الجنود الذين يدركون ما ارتكبوا من مصائب ومجازر وفظائع، حين يهدأ كل شيء ويعودون إلى بيوتهم، كما حدث للأمريكان الذين شاركوا في حروب فيتنام أو أفغانستان أو العراق.

إننا أسرى للتخيلات الجذابة في مناحٍ كثيرة من حياتنا، في استثمارنا، ومستقبلنا، وصحتنا، وممتلكاتنا؛ لكن العقل الذي يفكك الأشياء ويعيدها إلى حالتها البدئية، العقل الذي يحاكم الأشياء برويّة وتؤدة، لا يُضمن له النجاة الكلية من تلك التخيلات، ولكن سيكون تأثيرها محدودًا على الأقل؛ فمهما بلغ الإنسان من قدرة عقلية وذهنية فإنه يظل إنسانًا تجري عليه الظروف والتقلبات، كما تجري على بني جنسه، وكي نضع الأمور في نصابها فإن حالة الاستنفار في الجامعات الغربية ليست نتيجة لصور الشهداء فحسب، وليست تلك الصور دافعها الأول؛ إنما لشعور الطلبة والمجتمع العميق بتعرضهم للخداع والتعتيم طوال عقود، والخداع الناتج عن سردية تاريخية مؤدلجة طوال حياتهم، وانكشف زيفها أخيرًا. ومتى سمحنا للآخرين بكتابة تاريخنا، فلا نلومنّ أنفسنا حين يُعتدى على ذلك التاريخ، ومن ثم على الناس الذين صنعوه وجاؤوا منه، وهذا أمر يجب أن تتبناه الجهات المسؤولة تمويلا للمفكرين والمؤرخين وتبنيا لهم مع مساحة حرية حقيقية، لا أن تكون مشروعات ارتجالية فردية.