التاريخ "دهشة المؤرخين"

05 فبراير 2023
05 فبراير 2023

لهو أمر آسر أن نقرأ التاريخ على نحو فلسفي، فتجود مخيّلتنا بمزيد من التساؤلات حول تاريخ التاريخ، في محاولة تأطيرها في أيديولوجيّة معرفيّة، وفق منظور فكري يؤمن بطابعها التواتري، الذي من شأنه أن يحقق ديمومة الوجود، وليس مجرّد محض أحداث عشوائية في محاولة لقراءة التاريخ بمعنى.

كيف هو شكل الحاضر يا ترى إن تجرّد من ذلك الماضي الذي يستند عليه، والذي يُبنى عليه الخبرات والتنامي الحضاري والنماء المعرفي لكل ما يحيط بنا؟ بلا شك سيكون الحاضر مليئا بالبدايات التي تتسم بالانطلاقات العبثية، التي لم تكن لها نهايات تنطلق منها، تلك النهايات التي تتكئ عليها لتعرف منها نقطة انطلاقتنا وتوجّهات مساراتنا التي نصحّحها مرّة بعد مرة.

لا يمكن تجاهل أن الماضي قد نشر بذوره من حولنا، فها هي تثمر حاضرا تبدّى بشاكلة تشابه التتابع النمطي التاريخي، فما نحن سوى بعض من أحلام الراحلين، فذلك الماضي يعطينا سرّه الأعظم عبر حكايا التاريخ، وسيَر الراحلين وتدوينات المؤرّخين، لنبحر عبرها بلا هوادة مطّلعين على ذلك التاريخ الذي سيكون عليه الحاضر، والذي سيُبنى عليه مستقبل الغد.

وكما يقول جيمس هيلمان عالم النفس الأمريكي: "عاجلا أم آجلا يوجد شيء ما يدعونا إلى مسار معيّن"، وبما أن التاريخ يعجّ بالافتراضات المقتبسة من برديّات التاريخ بأشكالها المتنوّعة، التي وصلت إلينا على هيئة مخطوطات قديمة أو حكايا شفهيّة، أو أحداثا تاريخية موثّقة عبر ذلك التراث المادي الملموس، الذي تحكيه المعالم الأثرية بأشكالها من حولنا، حيث لا مناص من الشكّ، فإن تلك الروايات المختلفة التي تحمل في باطنها افتراضات عديدة؛ تجعل للماضي امتدادا مستمرا لا نهائيا كما لامتدادات المستقبل الأبدية، فكما يقول محمد حسنين هيكل: " التاريخ ليس علم الماضي فقط، وإنما هو علم المستقبل أيضا، وذلك هو الفرق بين التاريخ والأساطير".

فنجد أن ذلك التاريخ يُقرأ مرة بعد مرة، وتعاد قراءته ودراسة فصول تلك المنظومة التتابعيّة، التي تكشف لنا الرؤية البانوراميّة لخط سير التاريخ، فهو ليس مجرّد أحداث غوغائية مبعثرة، فعبر قراءة التاريخ نعرف أن هناك نمطا يمكن قراءته، وهناك قانون ما يربط بين الأحداث التاريخية، وأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا حسب تلك القوانين الثابتة، وإذا ما تمّ استخراج تلك الأحداث من سياقها، فإنه بذلك لا يمكن فهمها.

وسط تساؤلات فلسفية عديدة، تعيد النظر في التاريخ في محاولة للفهم الكلّي من أحداث متفرّقة، هل الحكايات تُعيد نفسها عبر الزمان بأشكال وصيغ مختلفة؟ وهل كل الأزمان والحضارات محكومة بمبدأ النهاية والبداية؟ عبر مسارات تتابعية نعي منها أن كل نهاية تتبعها بداية ما؟ وهل صنّاع التاريخ حقا هم أصحاب النقلات التاريخية الجسام في أحلك المواقف، أم أن صنّاعها الحقيقيين هم عامة الناس الذين لا شأن لهم سوى صناعة يومهم، والذي تُبنى عليه بقيّة الأيام؟ وإن كان لتلك الحكايا التاريخية دور في تشكيل الحاضر والمستقبل، فكيف هو الأمر بتلك الأحداث والأسماء التي لاقت تهميشًا في الماضي، فلم يعد لها ذِكر في الحاضر، ولن تكون بذلك في المستقبل وعلى نحو بدهي؟ فهل هي حقا قد اندثر تأثيرها مثلما تلاشى ذِكرها من كتب التاريخ؟ أم أن تأثيراتها كانت على نحو مبطّن لم يتم التطرق له، إلا أنها أحدثت حِراكا في حينها غيّر مجرى التاريخ؟

ليأتي التاريخ مجددا بقراءة جديدة لمنظومة المعارف التاريخية، تحكي سيرة الشيخ "عبدالله بن زاهر الهنائي"، عبر فصول من تاريخ عمان السياسي والحضاري، للدكتور المؤرخ والباحث التاريخي "سليّم محمد الهنائي"، لتكون بذلك دراسة جديدة بالإضافة إلى منظومة ذلك الماضي المتنامي، الذي تعاد قراءته مرة بعد مرّة، ليعيد كتابة التاريخ فنعيد نحن قراءته على نحو فلسفي، ليتناول في كتابه أحداثا مفصليّة من تاريخ عمان، متأرجحا ما بين التاريخ والتأريخ، إيمانًا من الكاتب بأن "التاريخ عبارة عن تراكم الأحداث والسيَر"، ويصفها بأنها "محاولة ومقاربة منهجيّة لا تدخل في باب المفاضلة أبدًا، وإنما تدخل في باب تقريب الأحداث، وعرضها في أقرب صورة للواقع"، مع تضمن الكتاب لمراسلات ووثائق سرّية تنشر لأول مرة، ليكون كتابه مادة إثرائية يقدّمها امتنانا منه لذلك التاريخ الذي صاغ لنا الحياة الحالية على ما هي عليه، وإيمانًا منه بمقولة علي بن أبي طالب "خير البلاد ما حملك".

ليكون من "جيوبوليتيكية المكان" مفتتحا لجولة في الحدود الإقليمية والتاريخ الحضاري منذ زمن الاستيطان الأول، ليتطرّق إلى الصراعات الأولية التي آلت في الأخير إلى أن تكون عمان دولة واحدة ذات حكومتين مستقلتين، حكومة مسقط وحكومة الإمام في الداخل، ليستعرض بعدها كثيرا من الأحداث التطورية التي مرّت بها حُقب التاريخ في عمان، محاولا قراءة محطاتها، بداية من حضارة مجان قبل الميلاد، وانهيار سدّ مأرب الذي أدى إلى نزوح وهجرة بعض من القبائل العربية، ومنهم قبيلة الأزد بقيادة مالك بن فهم، ليجد الفرس فيتحرر منهم بعد ذلك، ولتتوحد فيما بعد تحت حكم الإمامة في عصر الدولتين الأموية والعباسية، ويسود بعدها حكم النباهنة لمدة خمسة قرون، ثم تتعرض البلاد لاحتلال البرتغاليين لسواحل عمان بقيادة البوكيرك، لمدة تقارب الخمسين عاما، ليأتي بعدها ناصر بن مرشد محاولا توحيد عمان خلال العشرة أعوام التالية لفترة حكمه، ليتم التخلّص بعدها من البرتغاليين، ثم تعود الإمامة مجددا عام ١٩١٣م، فيتوالى الأئمة بعد ذلك في سلسلة من المنجزات السياسية والتاريخية والحضارية، فتتتابع الأحداث على نحو أبدي وإلى ما لانهاية، ويشير الكاتب " الأصل في الوضع السياسي في عمان هو الاستقرار وليس الصراع "، ليرسو بعدها على ضفاف حرب الجبل الأخضر ليقول " إن هذه الحرب التي شكّلت منعطفا في تاريخ عمان، ساهمت في ظهور العديد من الأسماء، ما كنّا لنعرفها لولا أدوارها الحربية التي قامت بها "، مشدّدا على أن تأجيج الصراع بين الحكومة والإمامة " كان على يد بريطانيا؛ فهي السبب الرئيس في الصراع الذي حدث بين السلطان سعيد بن تيمور والإمامة "، ليسرد سيرة الشيخ عبدالله بن زاهر الهنائي، ويؤكد بذلك على مقولة الكاتب الفرنسي هنري ماسيس " الإنسان هو من صنع التاريخ، وليس التاريخ هو الذي يصنع الإنسان".

ومن خلال قراءة التاريخ نجد أن تلك الأنظمة السياسية تشيخ وتهرم، كما يهرم القائمون عليها كما أنها جُبِلت على قانون الموت والحياة، والبداية والنهاية الذي لا يقتصر فقط على الكائنات الحيّة، بل يطال كل المنظومات من حولنا، وحسب تتبّع أحداث التاريخ ومحاولة قراءة ما وراء تلك الأحداث التي حدثت في الماضي نجد أنها تسير بنمط يكاد يكون كسِجال وحوار جدلي بين الماضي وما سبقه ومعطياته، وبين احتياجات الحاضر والمستقبل ، فحسب رأي هيجل " كل مرحلة تاريخية هي نتاج منطقي للمرحلة التي سبقتها "، لتتّسم الأحداث بخط سير يمكن فهمه، بالحركة والصيرورة والاستمرارية، فلو سرنا على ذلك الافتراض، وجدنا أن الأنظمة السياسية أنظمة إنسانية بحته تشابه حقا ذلك الإنسان في ولادته وشيخوخته وموته، ولتدارك الأمر وكمحاولة لزيادة العمر الافتراضي لتلك الأنظمة؛ لا بدّ من الانتقال الجدلي للسلطة، والحكم ما بين خطّي البداية والنهاية، وما بين الجيل الجديد والجيل الكهل، ليمسك أحدهم العصا من النصف لتدارك أمر كهولة الأنظمة، وهذا أشبه بأمر الفكرة ونقيضها التي تحدّث عنها هيجل، أو ما يسمى بالجدل الهيجلي، عبر الرأي ودحض الرأي الآخر، كمنهج عقلي استدلالي يؤمن بأن فكر زمانك يكون محصورا ما بين خطي الماضي والحاضر.