التاريخ الشفهي .. مهمة عاجلة

25 يناير 2023
25 يناير 2023

قبل أحد عشر عاما من اليوم، بدأت رحلة تدوين التاريخ الشفهي في سلطنة عُمان الذي عملت عليه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية. ومنذ ذلك اليوم وحتى اللحظة، فقدنا كثيرا ممن ساهموا في تدوين وإثراء تاريخنا الشفهي غير المدون، ممن غيّبهم المرض، أو وارتهم الأرض عليهم من الله رحمات ومغفرة.

والتاريخ الشفهي بشكل مبسط، هو التاريخ المحكي غير الموثق في الكتب والمراجع الرسمية المعتبرة، الذي ظلت تتناقله الأجيال إما بالرواية عن أسلافهم، أو المشاهدة والتجربة الحياتية المعاشة ضمن حقبة زمنية مضت وولت.

ولا تخفى أهمية تدوين التاريخ الشفهي على القارئ البسيط، فضلًا عن المثقف الحصيف؛ فقد اهتم العمانيون منذ القدم بالمدونات الفقهية وبشكل أقل بالشعر وقوافيه، وإن كان هذا الأخير لا يستطيع منافسة التدوين الفقهي، حيث تسوّرت المنظومات الفقهية ساحته وظل في زاوية قصية يخرج في فترات على شيء من الحياء.

أغفل العمانيون تدوين تاريخهم الحافل المليء بالأحداث والمعارك والبطولات، ولأن كانت هنالك تدوينات تاريخية تُعد على الأصابع؛ فما فُقِد منها واندثر لسبب أو لآخر، لهو معضلة حقيقية تتطلب وقفة صادقة من الشعب بأكمله ولا يقتصر الأمر على الحكومة فحسب، فمشروع كمشروع تدوين التاريخ الشفهي، لا يمكن أن تقوم به الحكومة منفصلة عن دور المواطنين صغيرهم وكبيرهم في المساهمة فيه وتحقيق مآربه وتطلعاته.

ولا يقتصر أمر التدوين في حقيقته على تدوين الأحداث المفصلية البارزة في حقب التاريخ الطويل لحضارة عريقة كعراقة عمان، بل يشمل المعاملات اليومية، وأسلوب الحياة، والأناس الذين عاشوا وبرزوا في تلك الفترات المختلفة.

وأشبِّه أمر التدوين التاريخي كلعبة «اكشط واربح»، فيظل التاريخ غير المكتوب غائبًا لا نقترب منه حتى بالتخيل، لكنه يتبدى وتتكشف ملامحه كلما توغلنا في «الكشط» والكشف عن مكنوناته ومحيطه، حتى تظهر الصورة الكاملة بارزة جلية لا لبس فيها ولا ضبابية، أو كلوحة فنية لا يميّز الناظر إليها ملامحها ولا يتذوق جمالها حتى تكتمل معالمها.

ومما حداني للكتابة عن هذا الأمر، تشريفنا بالزيارة من قبل فضيلة المكرم الشيخ عبدالله بن راشد السيابي قبل مدة يسيرة، وحديثه مع والدي عن بعض الأعلام في سمائل ممن سكنوا سمائل واستقروا بها، أو ممن استوطنوا سمائل لفترة من الزمن.

ولفضيلة المكرم الشيخ كتاب بديع يحمل عنوان «تحفة الأنام فيما لسمائل الفيحاء من معالم وأعلام» وهو من الأمثلة البارزة على موضوع حديثنا لهذا اليوم؛ ففضيلة الشيخ اعتمد في كتابته على كثير من مرويات التاريخ الشفهي من كبار السن وخصوصًا أخيه صالح بن راشد السيابي.

ومن الطرائف في حديث فضيلة الشيخ مع والدي، أنهما تذاكرا رجلا ورد ذكره بالاسم الأول مع القبيلة فقط، وذُكِر ذلك الرجل باعتباره من تلامذة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، ولم تورد المصادر ذكر نسبه أو شيء يدل على شخصه، وبعد البحث والتقصي؛ تبيَّن أن ذلك الرجل معروف لدى كبار السن، ولكنهم يعرفونه ببساطته وسماحته، ولا يعرفون شيئا عن علمه ومعرفته.

هكذا نتبين أهمية تدوين التاريخ الشفهي، ولأنه شفهي؛ وجب أن يتم تدوينه بصورة عاجلة لا تريّث فيها ولا تأجيل، لأنه موجود باقٍ ببقاء أصحابه وسلامة ذاكرتهم، ومتى توفى الله أصحابه أو أصابهم المرض، فقد ذلك التاريخ واندثر بذهاب حُفّاظه، ولا يلزم أن تكون المادة المدونة مكتوبة فحسب؛ بل يمكن أن تكون مسجّلة صوتًا أو صوتًا وصورة، إلى أن يتم تفريغها كتابيا من قبل العارفين والمهتمين بالتاريخ شفهيًا أو مكتوبًا.