«البنات زريعة إبليس»
الوجه السيء للجوائز، كما حدث مؤخرًا في جائزة البوكر العربية، يكمن في الانحياز غير المبرر لعمل أدبي دون آخر، لمجرد أنّه خرج من بقعة جغرافية تخصنا، وكأنّ الفوز يجلبُ كأسًا مُتخيلًا لبلداننا التي تناءت مسراتها. في تصوري الشخصي، نحن لسنا في كأس العالم، ولذا ينبغي أن ننتصر للكتابة الجيدة، تلك التي تمنحُ السرد حساسيته اللافتة. لقد أحدث فوز رواية «خبزٌ على طاولة ميلاد» للكاتب الليبي محمد النعّاس -الذي نسمع اسمه لأول مرّة- مفاجأة مُحرضة للقراءة.
والمفارقة، أنّه في وقت يُكابد فيه الوطن العربي أزمة الخبز، تفوز رواية بطلها الأساسي هو «الخبز». حيثُ يقيس السارد الحياة وتغيراتها بالخبز الذي تتعدى دلالته السطحية، لتعبر ضمنيا عن طبقات المجتمع، فمع ثورة النفط تحول الليبيون من الخبز الشعبي «التنور» إلى الخبز الإفرنجي «الباقيت» الفرنسي، بينما في وقت الأزمة أمرتْ الحكومة بتصغير الخبز وتغيير التسعيرة. يرسم لنا «النّعاس» التعددية أيضا من خلال الأيدي التي تصنع الخبز، فالليبي جوار التونسي والمصري والمغربي أيضًا.
دقيق، ماء، خميرة، وبعض من الملح، وتصنع معجزة اسمها «الخبز»، والسر يكمن في القلب والعقل واليد، وقد يملكُ الجميع العقل واليد لتحضيره، لكن لا يملك الجميع القلب ذاته. لا بدّ لنا أن نُحبّ الخبز، فهو كائنٌ مثلنا يتنفس ويتحرك، ويحتاج الوقت الكافي ليتفاعل مع وجوده الجديد، ليصنع الطعم داخله، وينبغي أن يكون كل شيء بمقدار دقيق لينمو جيدًا، وإلا فإنّه سينمو مشلولًا. إنّه مثلنا قد ينفد ماؤه، فيصبح بلا حياة.
بوصفٍ كهذا يبني السارد قصّته عن علاقة «ميلاد» الذي نشأ وحيدًا بين أربع أخوات وأمّ ووالدٍ خباز، وعندما صار في الخامسة عشرة من عمره، علّمه والده كيف يغرسُ يديه برقة في العجين، وكيف يُمرر الموسى فوقه ليصنع توقيعه الخاص.
يبني السارد تشابكًا بين النساء اللواتي عبرن حياته وبين ذرات الدقيق، فيبدأ كل فصل من فصول الرواية بمَثلٍ ليبي، يُدلل على ازدراء المجتمع للمرأة من مثل: «تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة»، «البنات زريعة إبليس».
تظهر النساء بصورتين، صورة المرأة الراضخة المستكينة، والأخرى غير المكترثة لصوت المجتمع والأكثر ميلا لتحررها الشخصي، ويظهر «ميلاد» مُشوشًا وضائعًا بين الصورتين، ويُقدم نفسه بصورة لا يُحبها المجتمع الشرقي، ولأنّه نشأ بين أمّ وأربع أخوات، فهو يفكر كالنساء، يعرف أسرارهن الخفية، يُضفر شعر أخواته، وينزع الشعر من أجسادهن، الأمر الذي دفع والده لضربه ضربًا عنيفًا. وعندما تزوج صار يكوي لزوجته ملابسها، يُحضّر طعامها، يعتني بالأشجار، ينشر الغسيل، وينتظر عودة زوجته من العمل.
لا نشعر بثقل النقلات الزمنية، تمضي القصّة بخفة من الطفولة إلى الشباب إلى الزواج، مُستخدمًا تقنية « الفلاش باك»، حيث تتشظى الأحداث وتعود لتلتحم، تبدو القصّة مألوفة، وفي بعض الأماكن تتحول اللغة إلى لغة تقريرية وخطابية، مباشرة وفجّة عن أوضاع المرأة وعذاباتها في مجتمعات متزمتة ومنغلقة تمارسُ التحرش والعنف الأسري، دون قدرة على تذويب الأفكار في جسد النصّ. نشعرُ بدفق البدايات الأولى دون مكابح الصنعة التي تُشذب النص من زوائده، وربما يبدو ذلك طبيعيًا فيما لو عرفنا أنّها الرواية الأولى للكاتب.
ولكن ما أخرج الرواية من رتابة موضوعها، هو التواشج الناعم مع فكرة «الخبز»الذي يلتقي مع كل طقوس حياته في الحبّ والكره، في الفرح والحزن. تذكرتُ رواية «كالماء للشوكولاتة» للكاتبة لاورا اسكيبيل، فهي أيضًا عن فتاة، تعد أطباقها بالمشاعر التي تعبر حياتها، وتقدم الرواية موقفا من إحدى العادات المكسيكية القديمة حول زواج البنت الصغرى.
وعودة إلى قصّة «ميلاد» فالجميع بمن فيهم النساء، كان يُحرض الرجل المُعَنِف والمُخبأ بداخله لكي يظهر، والده والعبْسي «الذي يمثل المجتمع»، والمادونا مدربه في العسكرية، جميعهم دفعوه ليُخرج الحزام ويجلد المرأة، ليصبح في شريعتهم «رجلا».
لا أظن بأنّ قضية «الجندر» أو القضايا الكبيرة قادرة على تقديم رواية جيدة ما لم تؤازرها كتابة تُحرض القار والعادي في وعينا، ولقد استطاع النّعاس أن يواجهنا باليومي من حياتنا، وبـ تناقضاتنا.
ويبقى أن نقول: لكل رواية من الروايات المتأهلة، موضوعها ومبررها، ولكل لجنة تحكيم ذوقها ونظرتها.