البطاريق الكبار - رهين المحبسين
استكمالًا للسلسلة التي بدأناها منذ شهرين، والتي تتناول لمحات من حياة ومؤلفات أدباء ولغويين فقدوا البصر واستبدلوه بالبصيرة النافذة التي جعلتهم خالدين أبد الدهر. بطريق اليوم، عظيمٌ أردت الكتابة عنه دومًا، لكن رهبة اسمه ومهابته جعلاني أؤجل الكتابة عنه كلما أردت ذلك، وكلما ظننت أنني اقتربت منه؛ لم أجدني قد بلغت سوى الشط، وكان الغور بعيدًا فلم أبلغه، هو أبو العلاء أحمد بن عبدالله بن سليمان المعري المعروف بـ«رهين المحبسين»، والمحبسان هما العمى والمنزل.
ظل المعريُّ يبعث في الأدباء الذين أتوا بعده حياةً أخرى ونورًا متجددًا، وليس المؤلفون المعاصرون بمعزل عن هذا التأثير. فهذا الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد يكتب عنه عدة أعمال منها «أبو العلاء» وهو المعروف كذلك بـ«أبو العلاء هو أبو العلاء» وكتابه الآخر «رجعة أبي العلاء»، وهذا عميد الأدب العربي، البطريق الكبير طه حسين يكتب كتابا رائعا فريدا عن أبي العلاء عنوانه «مع أبي العلاء في سجنه» و«صوت أبي العلاء» و«تجديد ذكرى أبي العلاء»، كما أنه شرح لزوميات المعري مناصفة مع إبراهيم الأبياري. أما في قُطرنا العماني، فقد تأثر العمانيون بأبي العلاء تأثرهم بأستاذه؛ أعني المتنبي. فسارت أبيات حكمته في الآفاق، وتناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، مثالًا للحكمة المتجددة لخالدٍ لا تطمسه الأيام. فهذا الملك النبهاني سليمان بن سليمان يقول قصيدته الرائعة:
ألا في سبيل المجدِ ما أنا صانعُ
نَفوع وضَرَّار ومُعطٍ ومانعُ
وهي نسخة معدلة من قصيدة المعري:
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعل
عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِل
وهذا الشاعر العذب عبدالله البلوشي يعنون كتابه الأدبي «في دار أبي العلاء.. عزلة وكلمات» الذي يأخذنا فيه البلوشي في رحلة عجائبية فيها حوارات صادقة -رغم كونها متخيلة- بين المعري وبين المؤلف، رغم أن دور المعري هنا يكمن في كونه الشخصية الناطقة برؤى وأفكار البلوشي نفسه؛ وهو ما يذكرنا برأي طه حسين في كتاب العقاد عن المعري، رغم أن هذا لا يقلل من العقاد ولا البلوشي الخطيرَين أدبيًا ومعرفيًا، بل هي براعتهما التي جعلتهما يستفيدان من أيقونة ضخمة كالمعري.
لا أظن أديبًا عربيًا حظي بما حظي به المعري من المكانة، فحتى الجاحظ الذي نعده الأب الأكبر للأدب العربي، لم يقرأه كثير من الناس؛ لكن المعري حالة فريدة خرجت من بوتقة الزمن والقُطر لتكون أيقونة عالمية للعبقرية والدهاء والوقار المهيب وربما تكون ملكته الشعرية سببًا إضافيًا لذلك، على النقيض من الجاحظ الذي كان أديبًا ولم يكن شاعرًا. فقرأها الجميع بمشاربهم المتنوعة، وبثقافاتهم المتعددة.
وأختم بما قاله العقاد في كتابه «أبو العلاء»، في الفصل الأول «علامات الخلود»، «ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود: فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجوٌّ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الآدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها. وهذه العلامات الثلاث مجتمعات في أبي العلاء على نحو نادر في تاريخ الثقافة العربية، لا يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو في ضمان الخلود منذ أحبَّه مَن أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب».
وكما ذكرت في مطلع المقال، فلست أجد أمام هذا البحر اللامتناهي سوى الدهشة المتجددة والحب العظيم، ولست أدّعي بأنني سآتي بجديد لم يُقل عن هذه الشخصية الأسطورية، لكنني سأحاول الاقتراب منها قدر الإمكان. وسأتّبع معها سبيلا مختلفا عما سبق عرضه للشخصيات الأخرى؛ وذلك أنني سأقدم مراجعات عن كتبه التي قرأتها وأعيد قراءتها وذلك ضمن هذه السلسلة، لتكون تعريفا بهذا الفذّ واقترابا من عالمه الأدبي الخصب، لا لمحة عامة عنه فحسب. ولو كان لنا الخيار في لقاء أديب ممن توفي من الأدباء، لأصابتني ربكة الاختيار بين الجاحظ والمعري، فرغم افتتاني بكتب الجاحظ وقلمه السيّال، إلا أن المعري بالنسبة إليّ أقرب روحا ورؤية.