البطاريق الكبار - المُرَعَّثُ (2)
ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال سبب عنونة المقال، وسبب تلقيب شاعرنا بشار بن برد بالمُرَعَّثِ، وأن البيت الذي استلهمنا منه عنوان هذه السلسلة التي تتناول طرفا من حياة شعراء وأدباء ولغويين فقدوا البصر، واستبدلوا به البصيرة الثاقبة؛ حتى أن أحدهم ليصف مشهدا يعجز البصير عن وصفه بمثله.
عود على بدء؛ قال بشار بن برد:
إِذَا انْقَلَبَ الزَّمَانُ عَلاَ بِعَبْدٍ وسَفَّلَ بالبَطَارِيقِ الكِبَارِ
وللبطاريق معانٍ ذكرناها في الجزء الأول من المقال، وقد قال المُرَعَّثُ هذا البيت بعدما استنقص أعرابي منه، فلم يحتمل المُرَعَّثُ كلام الأعرابي فهجاه بأبيات هذا البيت منها.
حين كتبت الجزء الأول من المقال، لم أكن قد وجدت كتاب ابن المعتز «طبقات الشعراء»، وحين وقع بين يدي وطالعته؛ وجدت ابن المعتز يستفتح كتابه بذكر بشار فيقول عنه «كان شاعرا مُجِيدا مفلِقا ظريفا محسنا» ص21 طبقات الشعراء طبعة دار المعارف.
ويورد ابن المعتز الروايات التي قيلت في مقتل بشار، ولكنه يضيف إليها موقف المهدي بعد قتله لبشار «ولما توفي -بشار- تذكَّرَه المهدي وحُسنَ معاشرته له. كان أنيسَ مجلسه، وقد كان معجبا به وبشعره، وكان يُدنِيه» ثم يورد فصلًا آخر من الرواية «وحُكِيَ أن المهدي لما قتل بشارا ندم على قتله وأحبَّ أن يجد شيئا يتعلق به، فبعث إلى كُتُبِهِ، فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعا في أن يجد فيها شيئا مما حَزَبَهُ عليه، فلم يجد من ذلك شيئا، ومرَّ بِطُومار مختوم، فظنَّ أن فيه شيئا، فأمر بنشره، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبدالله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، فمنعني ذلك من هجوهم، ووهبت جُرمهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عِرضًا ولم أقدح في دين، وهما:
دينـار آل سلـيمـان ودرهمُـهم كَالْبَابِلِـيـَّيْـنِ حُفَّـا بِالْـعَفَـارِيـتِ
لا يوجدان ولا يُرجى لقاؤهما كَمَا سَمِعْتَ بِهَارُوتٍ وَمَارُوتِ
فقال: الآن والله صح الندم». ص22 طبقات الشعراء.
وكما أسلفنا، فقد كان شاعرنا ذا دعابة وفكاهة، إنْ في حياته اليومية ومواقفه الاعتيادية، أو في شعره، وهو مع ذلك سريع الغضب، فمَن زلت لسانه أو أغضب المُرَعَّثَ؛ صبَّ عليه من هجائه ما لا يطيقه السامع.
وهو مع ذلك شاعر مجيد مطبوع يقول ابن المعتز في ذلك «وكان مطبوعًا جدًّا لا يتكلف، وهو أستاذ المحدثين وسيدهم، ومن لا يقدم عليه، ولا يُجَارَى في ميدانه». ص24 طبقات الشعراء. وهو يبزُّ أقرانه في الفنون الأدبية التي يدخل فيها، ومن الطريف أن سبب قوله لأرجوزته الدالية العذبة، أنه «حضر بشار يومًا مجلس عقبة بن سلم الهنائي، وقد حضر عقبة بن رؤبة بن العجاج ينشده أرجوزة، فاستحسنها بشار، فقال عقبة: يا أبا معاذ، هذا طراز لا تُحسنه أنت ولا نظراؤك، فغضب بشار فقال: تقول هذا؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك، ثم غدا على عقبة بن سلم الهنائي بأرجوزته الدالية التي يقول فيها:
يا طَلَلَ الحَيِّ بِذاتِ الصَمدِ بِاللَهِ خَبِّر كَيفَ كُنتَ بَعدي
وفيها يقول:
الحُرُّ يُلحَى وَالعَصا لِلعَبدِ وَلَيسَ للمُلحِفِ مِثلُ الرَدِّ
وَصاحِبٍ كَالدُمَّلِ المُمِدِّ حَمَلْتُهُ في رقعة مِن جِلد
فأُعجِبَ به عقبة، وقال لابن رؤبة: والله ما قلتَ أنتَ ولا أبوكَ ولا جدكَ مثل هذا، ووَصَلَ بشارًا وأجزلَ له العطية.
وكان بشار أستاذ أهل عصره من الشعراء غيرَ مدافَعٍ، ويجتمعون إليه وينشدونه ويرضون بحكمه.
وتشبيهاته -على أنه أعمى لا يبصر- من كل ما لغيره أحسن، ومن ذلك قوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه». ص25-26 طبقات الشعراء لابن المعتز.
ثم يستطرد ابن المعتز فيقول «وكان بشار يُعَد في الخطباء والبلغاء. ولا أعرف أحدًا من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب. ومما يستحسن من شعره -وإن كان كله حسنًا- قوله:
أمِن تجنّي حبيب راح غضبانا أصبحت في سكرات الموت سكرانا
لا تعرف النوم، من شوق إلى شجن كأنما لا ترى للناس أشجانا
أود من لم ينلني من مودته إلا سلاماً يردّ القلب حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وهذا معنى بديع لم يسبقه إليه أحد». ص28 طبقات الشعراء. وقد أخذ الشعراء البارعون أبياتا لبشار فنسجوا على منوالها واتبعوا أسلوبه وحاولوا الاقتداء به، فكان بشار وحيد عصره، وفريد دهره لم يدن من منزلته أحد من الشعراء، رغم فقده بصره وتمتعهم برؤية ما يصفونه ويوردونه في أشعارهم، وسنتحدث في الجزء الأخير من هذا المقال عن شاعرية بشار وأسلوبيته ومن تأثر به وأخذ عنه.