الإعلام وصناعة الرأي

23 أكتوبر 2024
23 أكتوبر 2024

فـي مشهد بدا مألوفا يتحدث الجميع عن أفول الصحافة والقنوات التلفزيونية الرسمية، ولكن فـي الوقت ذاته، ظلَّت هذه المنصات هي المصدر الموثوق للأخبار فور وصول خبرٍ عاجلٍ أو حدثٍ كبيرٍ. نعم تطورت الوسائل، وغدت الصحافة الورقية تنتشر بحُلَّتِها الإلكترونية بشكل أسرع ولم يعد انتظار صدور الجريدة الورقية لمعرفة الأخبار العاجلة أمرًا مجديًا. لكن، هل اختفت فائدة الجرائد ووسائل الإعلام وتأثيرها؟.

تابعت بشكل متزايد الأخبار المتعلقة بفلسطين ولبنان والعدوان الصهيوني الغاشم عليهما وعلى كل من ساند أهل غزة فـي مواجهة الإبادة الصريحة والمستمرة. يكوّن المتابع لوسائل الإعلام التابعة لكيان الاحتلال معرفة جيدة عن الدور الفعّال لهذه الوسائل فـي توجيه الرأي العام، الداخلي والخارجي على السواء، كما يلاحظ نمطا متكررا تُبنى عليه قراءات ذات أهمية بالغة. ففـي كل وقت يختار الكيان اغتيال قيادي ما، أو يرتكب مجزرة ما بهدف الإبادة المحضة وتهجير السكان الأبرياء الذي ظل الهدف الأبرز للاحتلال منذ البداية؛ كان يعقّب مباشرة عبر وسائل الإعلام اليمينية واليسارية على السواء بأنه استهدف قياديا فـي الحزب الفلاني، أو نفقا يستخدمه المقاومون، أو هدفا عسكريا. بل تطور الأمر بأن غدا تصريح دانيال هاجاري المتحدث باسم المليشيا الصهيونية، بأن هنالك نفقا ما أو جماعة ما مختبئة داخل مستشفى أو مدرسة أو دار عبادة -وهي كلها أمكنة يحرّم استهدافها فـي الحروب- مسوغًا مباشرًا لقصف ذلك المكان بما فـيه ومن فـيه، دون أن ترمش لهم رفة عين. فلا تغدو المتابعة والأعين متجهة نحو المدنيين الأبرياء وإبادتهم، بل يغدو الحديث عمَّا إذا كان خبر اغتيال القيادي أو الهدف المعلن قد تم فعليا!، وكأن قتل عدد لانهائي من البشر يغدو مسوغًا لمجرد تحقيق الهدف المعلن.

ثم إن تشكيل صورة عامة عن الشعب الفلسطيني تجعل قتله يبدو مسوغًا للداخل الصهيوني، أو للمتعاطف الأوروبي مع «ضحايا الهولوكوست» كما يطيب لهم أن يسموا أنفسهم، ومن عجب أن يكونوا -لو صح أنهم يهود أساسا، لا صهيونيون مجمَّعون من الشتات- ضحايا ألمانيا النازية، ويكونون جلادي الفلسطينيين العُزَّل فـي الآن ذاته!، وهو ما لا يمكن تبريره بحال. قرأت كثيرا من الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام الصهيونية، مثل موقع واللا، إسرائيل هيوم، يديعوت أحرونوت، معاريف، وأخيرا هآرتز التي تعتبر أكثرها اعتدالا وأقرب لليسارية والرأي الذي يخرج عن الحدود الموضوعة من حكومة الاحتلال على هذه الوسائل. تم تصوير سكان غزة بأنهم جميعا مذنبون وهمجيّون بربريّون، وهو ما صرّح به عدد من وزراء الاحتلال قبل وأثناء عدوانهم على غزة، وعلى رأسهم جالانت وزير دفاع الاحتلال. ثم صُوّر السنوار الذي أصبح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي تحكم قطاع غزة بعد انتخابات عام 2006م، بأنه الشخصية الهمجية والجبانة فـي آن!.

فصُوّر على مدى سنة كاملة بأنه إرهابي متوحش يقبع فـي الأنفاق، وهو محاط بالرهائن!. فـي صورة لا تنتمي إلا إلى غرف الإنتاج الهوليوودي الوهمية فحسب. وبعد أن استشهد السنوار فـي قتال على الأرض، فقدت الرواية الصهيونية مصداقيتها الموهومة؛ فكيف يموت على سطح الأرض من يعيش فـي الأنفاق محاطا بالخدم والحشم والأسرى «الرهائن كما يحلو للاحتلال تسميتهم»؟!. ثم إن مصطلح الرهائن والإصرار عليه ينبئ عن مكر عسكري متعمد، فكأنما هم أناس أبرياء مسالمون قبضت عليهم عصابات إرهابية!، لا أنهم مستوطنون يحتلون أراضي وأملاك أناس آخرين تم تهجيرهم. وبعد استشهاد السنوار، عدت إلى قراءة وسائل إعلام الاحتلال لأنظر كيف سيتم تصوير الأمر. فجاء خبر فـي إسرائيل هيوم «جيش الدفاع الإسرائيلي يقتل يحيى السنوار فـي غزة»، ووردت فـي الخبر جملة اعتاد الموالون للصهاينة أن يرددوها مذ بدأت حرب الإبادة فـي حديثهم عن حماس أولا، ثم فـي حديثهم عن السنوار «..كان المهندس لمذبحة 7 أكتوبر، التي قتل فـيها أكثر من 1200 إسرائيلي وخُطف فـيها أكثر من 250». هذه الجملة التي اعترف الجيش وكثير من مؤسسات الاحتلال بأنها غير دقيقة، وذلك لأن كثيرا من القتلى كانوا من الذين قتلتهم طائرات الاحتلال نفسه فـيما يعرف ببروتوكول هانيبال.

تتطلب قراءة الصحف التابعة والموالية للاحتلال قدرة عالية على تحمل الأكاذيب، ولم أستطع أن أنقل كل ما قرأته فـيها وذلك لأنها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، تُشر إلى عملية الإبادة الجارية حتى اللحظة. كما أنها تنزع صفة الإنسانية عن أهل غزة جميعا، بأطفالهم وشيوخهم ونسائهم حتى، وذلك ما تجلى فـي تصريحات وزير جيش الاحتلال يوآف جالانت «على سكان غزة أن يحرروا المختطفـين الإسرائيليين وأن يستسلموا»، أن يطلب من السكان، لا من مقاومي حماس الاستسلام؛ لا معنى له سوى لتبرير الإبادة الجارية. إن أكثر ما يذيب النفس والعقل، أن قتل المدنيين صار شيئا عاديا، وأن الشر يمكن أن يلتهم المرء ويجعله يرتكب الفظائع باسم الله، والإنسان، والوطن؛ ولا يحدث ذلك كله إلا نتيجة الأدلجة التي تلتهم ما يتبقى من الضمير الحي بداخل كل إنسان، وتنزع ما يتبقى من رحمة وشفقة تجاه أخيه الإنسان، فـيصاب بالسعار الدموي لإبادة ما يقع تحت بصره، من إنسان، ونبات، وحيوان، وحجارة!، وهو شيء موثّق بالصور والمقاطع المرئية، لا من قبيل الادعاء المحض. لأجل هذا كله، على المثقفـين العرب، ومن يمتلكون الملكات اللغوية أن يفندوا الجرائم الثقافـية للاحتلال ويواجهوها بسردية مضادة، لأن القتل الذي يكون ختاما وتحت المجهر؛ ليس إلا خاتمة الحَلَقة التي تبدأ من الكتابة والتعليم والثقافة التي يبثها الكيان فـي الشعب، فلنواجه كل سلاح بسلاح مضاد، وسيحكم التاريخ والضمير الإنساني على كل امرئ حسب موقفه وكلمته ورسالته.

ومن يتابع تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية وماثيو ميلر اللتين تخرجان من مشكاة واحدة فـي تسويغ الجرائم الصهيونية بحق أهل غزة ولبنان، لن يهنأ له بال وهو يبسط الاحتمالات، ألم يقل نتنياهو بأنه يريد تغيير خارطة الشرق الأوسط؟ مع هذا الدعم اللامحدود واللامشروط من الحكومات الغربية؛ هل نستطيع تخيل أن يكترث أحد لنا -عرب- إن تعرضنا للإبادة؟ لا أظن ذلك. وما لم يصل صوت الحق إلى الشعوب الغربية، فإن الحكومات المسلوبة الإرادة فـي الغرب، لن تغير سياساتها أبدا، وهي قد قدمت أبشع صورة عن النظام الديمقراطي فـي السنة الأخيرة بشكل واضح وبكل بجاحة، ولا تزال. مَن يصنع الرأي، يصنع الشعوب، وكيفما كان الصانع؛ تكون السياسة الخارجية..