الأم المثال.. الأم السعيدة
«يريدُ الأبناء أمّا سعيدة» لا أدري أين قرأتُ هذه الجملة، ولكني تذكرتها بصورة مُكثفة عندما التقيتُ مؤخرًا بأمّ حديثة، بدا عليها الارتباك الهائل لمجرد التحاقها بالنادي الرياضي. كان اللومُ يأكلُ قلبها كمن اقترف ذنبًا، ولا أدري لماذا شعرتُ بأهمية أن أتحدث إليها آنذاك. ربّما لأنّني عبرتُ بزورق حياتي في نهر مُشابه، فلم تمتد يد لتخرجني من التشويش الذي عبأ حياتي بشأن أن أكون أمًّا جيدةً وإنسانًا في آن! باستثناء تلك الكتب الجيدة التي أنقذتنا من حُلكة الأوهام المُفزعة.
أعرف ماذا يعني أن تكون الأمّ الحديثة حزينةً ومُرتعبةً، فهي لا محالة مُعبأة بصورة ذهنية شديدة التشويش عن الأمّ المثالية. تلك الصورة التي يستحيل أن نبلغها دون أن نتمزق! سألتها إن كان المجيء إلى النادي الرياضي يجلب لها السعادة ويخفف عنها، فأومأت برأسها إيجابًا، لكنها تخشى أن يفلت الوقت الثمين من بين يديها. قلتُ لها: «إن تمنح نفسكِ هذه الساعة إزاء الوقت الطويل الذي تقضينه بصحبة طفلك لن يهز ميزان أمومتك مثقال ذرة. يمكنكِ أن تعودي أكثر خفة وأكثر انسجاما مع دورك الجديد». لا أدري لماذا تدفقت الدماء في وجهها على حين غرة وخفت الشحوب والتردد العارم الذي كان يعتريها.
ما إن يشق الكائن الطري جسد المرأة حتى تعود كما كانت عليه. تصبح مسكونة بالصور التي ينسجها المجتمع، بالتجارب التي تقرأ عنها أو تشاهدها في الأفلام. فنحن لا نستطيع ادعاء التخلي عن التصورات الجاهزة التي رسمتها الأساطير والقصص القديمة حول الأمّ المتضائلة والمُضحية. وللأسف لا يُخفف المجتمع غالبًا من هذه المخاوف أيضًا، بل يدفع الأمهات لمعمعة المقارنات الحادّة، فتصبح الأمّ أقل تآلفًا مع رؤاها الشخصية، فهنالك ما تريد أن تبلغه طوال الوقت ولا تستطيع. وأجد أنّ إيمان مرسال في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» هي من أكثر من لمسوا عصب التوتر بين الصورتين، الأمّ المثال في المتن العام المقدس والنقيض الذي يقابلها في المتن الخاص. تُصاب الكثير من النساء بالعمى، يصبحن أسيرات للكائنات القادمة، فيتضاءلُ اهتمامهن بما يرغبن من الحياة، يغدو مجدهن انعكاسا باهتا على صفحة الأبناء، يستنبطن قيمتهن من تداعي الانعكاسات، فيترآى لهن إنجاز الأبناء إنجازهن وفشلهم الذريع فشلهن الذي يُفتت آخر ذرات التماس مع الفرح المؤجل!يشعرن بمسؤولية موجعة إزاء البصمة التي تنطبع في سلوك وسمات الأبناء دون أن يخطر ببالهن ضرورة حماية ذواتهن بالتطلع، بجذب المسرات الصغيرة ليصبحن أمّهات سعيدات، بضرورة التمتع بحيز شخصي آمن. في الرحلات التي أخرج إليها برفقة النساء الغريبات، أصغي إلى هذه العذابات، كأنَّ عدم معرفة إحدانا بالأخرى يمنحُ الحكي المزيد من الخفة والتدفق. ولذا كثيرًا ما يقفز هذا الموضوع حول: الأمّ المثال والأمّ السعيدة، وكأنّهما في صراع أبدي. فالأمّ التي ترغب في العيش المُطمئن وهي تعلن صراحة رفضها للتعنيف بأوجهه المتعددة على سبيل المثال، يدفعها المجتمع لأن تجتر صورة الأمّ كحجر صلب وراسخ يشرخُ أي رغبة في الانعتاق. وليس لنا أن نلومها في ذلك، لكننا بالمقابل نلوم الأصوات المتوحشة التي تنهرها لمجرد خدش الإطار المُذهب للأمومة مهما كانت بشاعة الصورة ومدى قبحها: «المرأة مجبولة على الصبر والصمت والتحمل»، «لا بد من معاناة وإلا كيف ستغدو الأمّ أمًّا!» وكأنَّ تخلي الأمّ عن حياة غير سوية هو وأد للأبناء، وتكسير لإطار الأمومة!
علينا ألا ننكر البعد المأساوي لأي انفصال بين طرفين، وأن ننظر في عواقب ذلك بتأنٍ وحرص، ولكن ألا يجدر بنا أيضا أن نسأل أنفسنا: كيف تنعكس صورة الأمّ الذليلة المُعنفة المُهانة في تصورات الأبناء؟ وما الذكريات التي ستغذي حياتهم المقبلة؟ كم من البيوت تُغلق أبوابها على قصص شديدة المأساوية، ظنا منها أنّ البطولة في الاستمرار لا في التخلي، في إنكار الحقيقة لا الانكشاف! في الأمّ المثال لا الأمّ السعيدة!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى