الأدب بمعانٍ آسرة

13 نوفمبر 2022
13 نوفمبر 2022

"هل بات من الضروري ولادة معانٍ جديدة للأدب؟ "

وِفق القوانين الفيزيائية وحسب مبادئ أرخميدس، فإنه لا شيء يطفو على السطح؛ سوى ما ثقل وزنه وقلّت كثافته، فتطفو الأجسام على السطح، فنراها على نحو يجعل تمييزها أمرًا سهلا للغاية، أما تلك الأشياء ذات الكثافة الأعلى والأوزان الأكثر؛ فتنزل إلى القاع إلى الحد الذي تبتعد فيه عن ناظر العيون، فيصعب تمييزها والبحث عنها والتعرف عليها، كالمشاعر الإنسانية التي جاءت مع لحظة خلقه الأولية، فهي عميقة لا يمكن التكهن بها قابعة هناك في العمق الدفين.

لو كان الإنسان فقط بكينونة من طين تشغل حيّزا من الفراغ، فيكون بذلك لا يعيش سوى لإشباع تلك الحاجات الدنيا، التي تتشابه في طبيعتها مع الخلقة الحيوانية، إلا أنه رغم نسبية ماديته، فإن هنالك ما ينازعها ويتقاسمها وهي النفخة الإلهية، لذا فهو مخلوق بجسد وروح، مما يجعله إنسانا مميزا عن باقي المخلوقات.

وكعادة كل الكنوز لا تطفو على السطح، فإن التعامل مع مشاعر الإنسان الحقيقية، التي تسمو به وترقى بقيمته كإنسان، وهو مجبول على تلك المشاعر الدفينة، التي تستيقظ في نفسه كل حين، وكلما كان إحساسك بتلك المشاعر عميقا؛ تعمقت معرفتك الحقيقية بجوهر ذاتك، وكيفية تغذية نفسك روحيا.

وكرحلات الغوص البحرية فإن النزول إلى العمق؛ يعدّ أسهل بكثير من العودة مجددا إلى السطح، ويمكننا اعتبار أن الذهاب إلى العمق تلقائي فطري وفق قوانين كونية، لكن الانفلات مجددا إلى السطح بحاجة إلى تقنيات مساعدة وتدريب، لا يتقنها الإنسان على نحو فطري بدهي.

لنعود مجددا إلى مشاعر الإنسان الدفينة، التي تقوده إلى الداخل العميق جدا، ومن هنا جاء الأدب بتجلياته ومشاعره وصنوفه وبلاغاته، ليس ليقودنا إلى العمق فقط، بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيعيدنا إلى السطح الطافي مجددا، وليستنطق ذلك العمق ليبوح بأسراره هناك في العمق.

الحياة بحاجة إلى الأدب أكثر من الإنسان ذاته، فالإنسان بخلقته وفطرته كلّ مكتف بذاته، إلى أن يدخل معترك الحياة التي تطالبه على مدار سنين عمره بالتفاعل المباشر معها ومع شخوصها والعمل على إعمارها، فمن هنا تبدأ مع الإنسان التناقضات والمفارقات العاطفية ما بين ما يشعر به في داخله وما بين متطلبات الحياة الصارمة بصبغتها الماديّة.

ليأتي الأدب ليتشارك مع الإنسان حكاياته، ومشاعره التي تقوده إلى العمق السحيق، فتتأسى نفسه بما يقرأ من صنوف الأدب السحيق، فالأدب لا يهدف في جوهره لاقتيادك إلى العمق فقط، بل لانتشالك من ذلك العمق بتلقائية وانسيابية، إلى سطح الحياة ومعتركها، فأنت لست بحاجة إلى العمق في داخلك، لأنها مشاعر فطرية، ففي كل مرة تزيح التراب لتنزوي أكثر فأكثر، بتجلّيات عميقة يصعب عليك أحيانا تفسيرها، فتعيدك إلى الارتباك مجددا، وملازمة الشعور الدفين بالاغتراب، وأن لا شيء من حولك قادر على الإشباع الداخلي لما تهفو له روحك.

فظهر الأدب بنزعة إنسانية تطورت عبر الحضارات، ليعبّر الإنسان عن نفسه وعن كونه أكثر من ذلك الجسد الذي يتحرك ويأكل وينام ويتكاثر، ليعبّر عن عدم كفايته لما حوله، وقادر على الإشباع الداخلي التام، فتجده يعبّر عن ذلك التيه بأساليب خرجت عن السياق والمألوف، لتنتظم وفق منظومة تطورية سمّيت فيما بعد "الأدب"، ولتنتظم بعدها تلك الأعمال وتتشعّب وفق صنوف عديده، ليكون هنالك الأدب بأشكاله المتعارف عليها، وليكون هنالك كاتب وقارئ، في حين أن حاجتنا إلى الأدب تستوجب علينا أن يكون في داخل كلّ منا قارئ وكاتب، مهما تباينت المستويات التحترافية بين النّاس.

فهناك من يسقط في العمق والجبّ ذاته بعد حادثة ما أو موقف مرّ به، فلا يستطيع مجددا سوى أن يكون سجينا على ذاته، غير قادر على مشاطرة الآخرين ما عايشه من مشاعر غير مألوفة، تكاد من فرط قوتها تترك علامتها المادية على الجسد وببصمة فسيولوجية، كما أنه لا يمتلك أيا من تلك الأدوات التي تمكنه من تفريغ الشحنات المكبوتة، ليكون أسيرا للأبد للصمت.

إلا أن الاتجاه نحو أن يكون الأدب للجميع كتابة وقراءة، فنحن بذلك نطرق جنبات النفس العميقة، ونتشاطر المشاعر وإن كانت حقيقة غير معبرة على نحو مباشر عن الواقع المعاش.

فنحن من خلال الأدب وعلى نحو لا يقبل التأويل نقرأ ذواتنا، ونجد ما يشابه حكاياتنا التي كنّا نظنها فقط لا تحدث سوى معنا، نكتشف بعدها أن الحكايات تتكرر وتتشابه، إلى الحدّ الذي ندرك فيه لاحقا أن حياتنا ماهي إلا سلسلة من الحكايات المنظومة وفق خط سير الزمان، والمراحل الانتقالية لحياة كل فرد، لنطمئن في ذواتنا وأن تبدي لنا التعاطف والذهول، فإن للزمان سيرة واحدة تُروى، وليس أهلاً لتقديم تلك الحياة أكثر من الأدب في أوج تجّلياته وتقاسيمه ومرادفاته اللفظية، وإيقاعاته ذات الدلالات المتعددة.

الوقع المحيط من حولنا لا يحقق الاكتفاء الذاتي الحقيقي للنفس، ولذا نجد أن هناك محرّكا داخليا يدفع الإنسان للبحث، خارج إطار الواقع المألوف، فيسعى جاهدا للتطوير وتمكين ذاته من مهارات تفوق حاجاته الدنيا، فيصبح هائما محباً للترحال حتى باتت الحياة كلّها باختصار؛ كرحلة ينتقل فيها الإنسان ليس عبر مراحل النمو الاعتيادية الفسيولوجية فحسب، بل هي رحلة نمو ذاتية، يبحث فيها عن ذلك الشعور العميق في داخله.

ولعلّ حاجة الإنسان لذلك الإشباع هو المحرّك الرئيسي لكل التغيّرات الشاسعة للعالم اليوم، فيأتي الأدب ليرافق كل التطورات، وليكون المحقق الأكبر والمشابه والموازي لحاجة الإنسان الدفينة، لمعرفة ذاته وفهم مشاعره والانتقال بانسيابية تامة ما بين العمق والسطح.

فذلك الأدب ليس معنيا بصورة مباشرة بتلقين المعرفة وتعليمها، بل هو للإشباع الذاتي الداخلي، فلا يكتفي الإنسان ذاتياً؛ حتى يكون متمكّنا من كل العالم مهما تطاولت من حوله الحواجز، وهو قوت الروح المتمردة التي يلازمها الشعور بالسّجن الأبدي، أو كما عبّر عنه ماريو بارغاس: " هو إعلان عدم الانقياد"، وذلك عندما سأله أحدهم في أحد معارض الكتاب الكبرى: لماذا نقرأ الأدب؟ ليُبدي استغرابه من السؤال، بحيث تمنى لحظتها أن يكون رده على النحو التالي: "لا أحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو غروب منظر شمس جميل".

ففي حين يرى البعض أن وظيفة الأدب تتمحور حول تقديم اللغة، وتمكين ذائقة القارئ النقدية؛ يجدها آخرين وسيلة لطيفة لسرد العبر والأقاصيص، أو تقديم المعرفة بطابع فني تستهويه النفس، وبقالب إنساني يُنزل العلوم المجرّدة من برجها العاجي، لتقترب من لغة العوام، بإضفاء طابع عاطفي وإنساني عليها، كما يشدّد البعض على اعتبار الأدب ضمن مدارج الفنون، التي تهدف بالمقام الأول الترويح عن النفس، كما يجد البعض في الفن شحذا للمخيلة وتغذية للحواس، فتلك الدهشة التي يُهديها لك الأدب بمثابة محفّزات ذهنية، وكما أنك تشعر بحلاوة مرادفاتها على اللسان؛ يعطيك لذّة الشعور، ويهبك أيضا خفّة ورشاقة في التفكير.

إذا كانت الحياة طريقا تمشيها، فالأدب يحمل إشارات الطريق، وإذا كانت الحياة عتبة باب نجتازها، فالأدب يفتح لك الباب لتعرف أن الحياة قد ابتدأت للتو، والأدب كساحل مليء بالأصداف، تجمع منها ما شئت حد الامتلاء، لتعود وتتخلّى عن كلّ ما جمعت بقناعة أكيده، فلا يمكن أن يتخفف أحدهم بأثقال جرّب أن يحملها، كما يجعل الأدب من العالم حولك وافراً، إلى الحدّ الذي تكون فيه محاطًا بالحكماء، وتطوف على مختلف الآراء، لتكون بعدها قادرا على ترجيح الكفّة الصائبة.

كما أن الأدب يجعل الاختيار بالنسبة لك أصوَب اختيار، فيحين يطوف بك الأدب إلى الأسئلة الوجوديّة التي تتوارد في ذهنك، لتعود مجدداً إلى المطلق، فنتنفس الأدب ليكون بجوار مشاعرنا الدفينة ، فنمتلئ بالأدب ونستعيد بعدها قدرتنا على التواصل المباشر على سطح الحياة.

كما أن الأدب ومعانيه البليغة يحمل متناقضات شاسعة المسافة، فهو كما يرتّب لك أفكارك إذا ما تبعثرت، يبعثرها مجددا إن انتظمت في سياق ممل رتيب، ويجيبك الأدب عن تلك التساؤلات لديك، ليهبك مجددا مع كل إجابة تساؤلات جديدة، تفوق تساؤلاتك التي ابتدأت معها، والأدب لا يقدّم المعارف بقدر تقديمه ما يرتبط بين مترادفات اللغة ونظمها، ليتوالى لديك فهم عميق يفوق تلك المعارف بأكملها، الأدب يذهب بك بعيدا إلى تلك النقطة، التي تقترب منها من رحلة بحث جديدة، ويطفئ الأدب حواسك لكل ما هو حولك، ويشحذها ويجعلها تتوقّد لما هو أبعد من مدار تواجدك، الأدب يسير بك ببطء شديد وهوادة، لكنه يعبر به عبر طرق مختصرة لتصل أسرع.

إلا أن الأدب وما تُشير له دلائل زيادة عدد قرّاءه، وتزايد الاهتمام به وليس تناقصه حدّ التلاشي؛ لهو دليل على أن الأدب يقدّم كل ما سبق وأكثر من ذلك، ولولا ذلك لكان مصيره الزوال منذ زمان بعيد، إلا أنه في نموّ متسارع منذ قراءة النقش على جدران الكهوف والمعابد التي عبّر فيها القدامى، لينتقل إلى الكتابة على البرديات، فيتطور بوحُهُ بعدها مع تطوّر الأختام والأحبار والأوراق، وعمليّات جِمارة الكتب وطباعتها ونسخها وتغليفها، ورغم التزايد المتسارع للأدب ومرتاديه وكاتبيه؛ إلا أن بوح الإنسان لم ينضب بل إنه في تزايد مستمر، فنفسك تتوق إلى مدارج تجتازها، وما إن تسمُ بنفسك وتظن واهما بأنك وصلت؛ تجد نفسك مجددا في رحلة بحث جديدة، وتظل هكذا، لتلخّص وتختصر برحلتك الداخلية حركة الكون بأكمله.