اقتصاد الكسالى
وهل أصبح للكسالى اقتصاد؟ صدمتني الأرقام المالية العظيمة التي يخلّفها الكسالى جراء كسلهم؛ فالكسل والخمول والسكون لا يُنصح بها في كل شيء في الحياة إلا في الاقتصاد؛ فالاقتصاديون أنفسهم ينصحون الناس بالكسل والاسترخاء والخمول وعدم فعل أي شيء وترك الباقي عليهم، فهُم من سيقوم بتأمين كل شيء حتى عتبة باب البيت، ابتداءً من طلبات الأكل الكسولة وانتهاءً باستيراد الملابس والأقمشة والإلكترونيات وإيصالها. ولا داعي لأي كسول أن يبذل أي جهد، فكل شيء متاح وفي متناول اليد.
موقع «تاوباو» الصيني المتخصص في التسوق عبر الإنترنت ذكر في تقرير له أنه باع خلال عام 2018 بما قيمته 2.3 مليار دولار أمريكي، محققًا زيادة وصلت إلى 70 في المائة عن الأعوام التي سبقته. في حين أن موقع «ستاتيستا» ذكر أن مجموع المبالغ المحصّلة من توصيل الطلبات من المطاعم والمتاجر إلى المنازل والمكاتب وصلت في عام 2024 إلى 164 مليار دولار بزيادة تُقدر بـ 10 مليارات دولار عن العام الذي سبقه. ولم يكن لهذه الأرقام أن ترتفع لو لم تسهم التقنيات العالية في زيادة أعداد تطبيقات الهاتف المحمول التي تقوم بتوصيل الطعام والسلع والمواد الاستهلاكية وزيادة القيمة الاسمية لها. فمثلًا تطبيق «طلبات» المختص بتوصيل الطعام تم بيعه إلى شركة ألمانية بقيمة 150 مليون يورو، في صفقة تُعد الأكبر في تاريخ المشاريع الشبابية الكويتية الصغيرة، حيث بدأ هذا التطبيق بمبلغ 4 آلاف دينار كويتي فقط، لترتفع قيمته السهمية بفضل الكسالى واقتصاد الكسل إلى الملايين، وهذا ما ينعكس بدوره على باقي تطبيقات الطرف الثالث التي تقوم بتوفير الخدمة من البائع إلى المستهلك.
الكسل، كما يُقال، غريزة إنسانية متأصلة في ذات الإنسان منذ نشأته، ولم يكن محبوبًا لدى كل الثقافات والشعوب، بل اتّفق الجميع على ذمه، ابتداءً من الشعراء وانتهاءً بالأطباء الذين ينصحون الناس بالابتعاد عن الكسل والخمول حفاظًا على صحتهم وعافيتهم. واليوم بات الكسل محمودًا، وأصبح أصحابه ممن يحرص عليهم أصحاب الملايين، فهُم من يسمنون ثروتهم ويزيدون ملايينهم. فكلما كان الفرد كسولًا، كان جميلًا وأنيقًا، ولا داعي للحركة أو بذل أي مجهود في الحياة، فكل شيء يمكن أن يصل إلى الفرد وهو مستلقٍ على سريره. فجيش العاملين على تطبيقات توصيل الطعام يسهر على راحته، وفيالق من يقومون بتوصيل الطلبات أيضًا هم رهن إشارة أي طلب سريع وخاطف، حتى لو كان زجاجة ماء أو كوب قهوة أو وجبة دسمة من الطعام أو أية مشتريات أخرى، فكل شيء في عالم الكسل والكسالى يمكن أن يُلبى بضغطة زر واحدة.
عند الحديث عن اقتصاد الكسل، لا يمكن إغفال فضائله ومساهماته في توفير بعض الوظائف والمهن للبشرية التي لم تكن موجودة من قبل، مثل عمال توصيل الطلبات، وعمال التغليف، وعمال الشحن والتفريغ، والفنيين القائمين على متابعة الطلبات إلكترونيًّا وتلقي البلاغات والشكاوى. كل تلك الوظائف لم تكن منتشرة بالشكل الذي ساهم اقتصاد الكسل والكسالى في ازدهاره وتنميته، وطبعا لا يمكن إسناد الفضل في توفير هذه الوظائف إلا للكسالى الذين لا يرغبون في ترك أرائكهم المريحة أو غرف نومهم الوثيرة، والحجة في ذلك أنهم يقومون بتوفير وظائف للآخرين. وهذه كانت الحجة التي ساقها ابني عند محاججته لي عن مدى الحاجة إلى الإدمان على تطبيقات توصيل الطعام، قائلًا بأنه يقوم بدعم من يبحث عن عمل أو يسعى إلى تحسين دخله الشهري، فلم أملك إلا أن أحترم وجهة نظره تلك.
يرى الاقتصاديون أن هذا النوع من الاقتصاد سوف ينمو ويزدهر في السنوات القادمة، وستضطر كل القطاعات الاقتصادية إلى اللجوء إليه، وستصبح القيمة السوقية لتطبيقات الطلبات والخدمات يسيرة الكلفة مرتفعة القيمة، خصوصًا مع انتقالها إلى الجيل الثاني والثالث من تطبيقات الطلبات التي تقوم بتوفير كل شيء للمستهلك، أو ما يُطلق عليه بـ«السوبر آب» أو التطبيقات العملاقة التي تحتوي على كل شيء. ويتنبأ الاقتصاديون أيضًا بأن تزيد نسبة الكسل والكسالى في العالم، وتزيد مخاطر الإصابة بالكثير من الأمراض المصاحبة للكسل، وتزيد أيضًا فاتورة العلاج التي سترافق هذا الكسول. ويمكن لاحقًا أن يفكر الاقتصاديون في توفير خدمات طبية وعلاجية في تطبيقاتهم لمن يعاني من أمراض تسبب الكسل في تطورها.