اطمئن: الموت يسكن في البيت
(1)
فيما أصبح من التعبيرات الاصطلاحيَّة بقوَّة الأمر الواقع في الحديث العُماني منذ زهاء ربع قرن، وحين يصف خريِّج جامعيٌّ - بمنتهى السُّوقيَّة والابتذال - الزوَّاج من موظَّفة بأنه «سكني تجاري»، فاعلم أن ذلك الشخص لا يتوافر على طريقة أفضل وأقل فظاظة لإثبات أن الخلل البنيوي الرَّهيب الذي نعاني منه إنما يكمن في الثَّقافة وليس في المعرفة، وأن هناك حالات لا تستطيع فيها الثانية إصلاح الأولى (وهذا مصدر كبير للفزع الرَّاهن والقادم).
(2)
لا يصلح له الموت، ولا يصطلح الحتف في القواقع.
(3)
حياتي صغيرة جدا. أما فيما يخص كل الأسى الذي حدث بعد ذلك، فاللوم يجب أن يُلقى على الكتابة (وهناك ما هو أسوأ: لم أعد أقدر أن أصير خارج ذلك).
(4)
الثَّورات لا وقت لديها لأي أحد فيما تنجُزُه، وما تفشل فيه، وما تتسبَّب فيه، ولا تريد الاستماع إلى أي أحد فيما تقضي عليه إلى الأبد.
الثَّورات غير معنيَّة بالتُّعساء، والنبلاء، والحالمين، والمثاليِّين، والمعتوهين، والمُصابين ببلاء الاكتئاب والأرق المزمنين الحادَّين.
ومن الأفضل أن يستمر كل شيء على هذا النحو (ماياكوفسكي سيكون هنا، وهناك، وسيبقى وحيدا: «أنا لستُ رَجُلا/ بل غيمة في بنطلون»).
(5)
لن يتاح ذلك مرة أخرى أبدا بينكِ وبيني (ولذلك عليكَ كتابة هذا).
(6)
ما من عِلَّة للحدس أكبر من التَّغاضي.
(7)
المُنادي الوحيد، بآخر تعبير عن اليأس في آخر حبال الصوت، لدى البرِّية، هو الأصدق والأعمق؛ لأنه يبالي بأهميَّة النِّداء بحد ذاته، وليس بمن يستمع أو لا يستمع إليه.
المُنادي اليتيم، الوحيد، في تلك القِفار، تخلَّص اليوم من كل المنافع والأغراض المتعلقة بالرِّسالة وإيصالها، وصار الصَّوت.
لهذا فإن ذلك المُنادي هو السؤال.
(8)
الأشياء ليست كما هي قائمة (الأشياء قائمة لديهم وهذا لا يعني بالضرورة أنها قائمة لديك). الأشياء هي ما تعرفه أنت، وما تختبره أنت.
أما الآخرون فكم من آخرين غيرهم، وكم هناك من سقط المتاع.
(9)
يا الله، كم هو كبير وعديم الذوق هذا البيت ذو الطَّابقين الأصفرين في المُجْمَل (على اعتبار أن بعض لطخاته اللونيَّة الأخرى التي تدَّعي التّباين بلهاء مثله). كم هو استفزازيُّ الهندسة، واستعراضيُّ الحديقة، وركيك المزروعات التي تحيط بالجدران من الخارج، وكم هو نكال أن عليَّ التُّعرض لهذا القذى في رحلاتي بالسيارة، حيث أقيم مع سبق الاستفزاز والتَّرصد في الحي نفسه الذي بُنِيَت فيه تلك الصَّفاقة.
لا بد أن يكون صاحب ذلك البيت السَّقيم متمتعًا بصحة جيدة، وعافية شبيهة بتلك التي تتوافر لدى محلات الخضار والفواكه، والأقمشة، وقطع الغيار المستَعملة. ولا بد، أيضا، من أن ذلك الشخص بليد بصورة ميؤوس منها، وغبيَّ في كل المواسم، وغير نادر في الأمثلة، وليست لديه أية مشاكل مع النوم.
(10)
أمحَقُ السَّعادة، وأمشي على هذا.
(11)
الذَّاكرة سبب كل سرطان (والكارثة هي أن السَّرطان لا يصيب الذَّاكرة).
(12)
كل هذا الألم الذي ينبثق من كل هذه العذابات الصَّغيرة لا يُفَتِّتُ شيئًا من عضد الوجع الأعظم.
(13)
يموت من يعرِفُ، ومن لا يعرِفُ، ومن يولدُ ولا يُعرَف (والخلود، في أية حال، ينتمي إلى أساطير دلمون وبلاد الرافدين، فحسب).
(14)
يتحدث بطريقة في غاية الإبهار والروعة للجميع (هذا مع أنه يكتب أيضًا).
(15)
تُثخِن التوقَّعات الحُب، لكن هل من حُب من غير توقُّعات؟
من الآن فصاعدا، في الشِّعر، وفي النَّثر، وفي شقَّة صغيرة وجبل ضباب ظفاريٍّ خريفي، وفي وجدٍ كبير: الحُب احتمالٌ ثانٍ، فحسب.
(16)
اللقاء الغرامي الأول الذي حدث بمحض المصادفة: الخوف يتشبَّثُ بكل القُبُلات اللاحقة.
(17)
تُحاك أسوأ وأحقر المؤامرات والدَّسائس في مساحة قدرها سنتيمتر مربَّع فقط.
(18)
بعد زهاء نصف قرن من التلميح في الكتابة، لن يكشف التصريح عن أي شيء.
(19)
اعلم يا هذا أن الخارج يخصُّ الأموات بالسَّليقة، أما الداخل فيبقى شأن الذين يموتون بالحقيقة.
(20)
بين كل خطوة، وشروق وغروب شمس، تنمسخ قرية وتَمْحُل ذاكرة. ومع ذلك، لا يستطيع هؤلاء البشر، والسيَّارات، والبنايات، والقروض المصرفيَّة، والجسور، والتَّناسقات الكريهة أكثر من السَّلام على بعضهم البعض بحثالات الرِّياء.
(21)
كان يمكن للبحر أن يقول شيئًا آخر لولا الغرقى من سُكَّانه، ولولا بعض من أمواجه التي تعبُر بِصمتٍ مُريب على أطوار حياتي في غرفة النَّوم.
(22)
ويحٌ للأموات: ها هم يخبروننا من جديد بكل ما لم يروه هناك.
(23)
حين لا تسعك ولا تلسعك الكتب التي على المنضدة، عليك بالنَّحلة التي بين خافقك، وأناملك، وحدود العالم.
(24)
يجلسون القرفصاء (ويرقبهم الوادي).
(25)
في التقاط الطُّيور والبَشَر؛ في حوصلة الأرض؛ فيما لن يكون واقعة ولا خرافة.
(26)
انظروا له، ولا تنظروا عنه، ولا تشفقوا عليه: كم يتكدَّس في ذلك الوجه البعيد، بلا مشيئتين.
(27)
صرنا نعرف بما فيه الكفاية أن الكتابة فعل من أفعال وأدوات السُّلطة («الكتابة تُدَمِّر الذَّاكرة»، سقراط). كيف نَكتُبُنا، إذن؟
(28)
انبثقتُ في أقصى درجات الرُّعب، واليأس، والخذلان (وهذه ليست نصيحة لأي أحد).
(29)
الأهل عند الأعادي. كيف يمكن قبول هذه الهديَّة؟
(30)
أحدس بنا هكذا كمن يقرأ قصص الأطفال (يكتبها)؟: وحيدان في جزيرة صغيرة لم تأتِ الروايات والأفلام والأساطير على ذكرها، ولم تغزُها العقائد والتَّماسيح، والأيديولوجيَّات، ولم يصل إليها الفاتحون، ولم يلجأ إليها المطارَدون، ولا استعمرها المواطنون، ولا همست بها الكتب.
نحن هناك.
(31)
اطمئن: الموت يسكن في البيت.