استعارة أنماط الحياكة
تحيكُ لنا الكاتبة الكندية مارجريت آتوود قصّة «المدعوة غريس» من حدثٍ حقيقي، وقع في أربعينيات القرن الـ19، بينما تحيكُ «غريس ماركس» بطلة الرواية، أغطيةً متنوعة من خيوط حقيقية.
وكفعل عكسي عجيب، تنمو الغرزُ فوق قطعة القماش التي بين يديّ «غريس»، بينما تَحِلُّ طبقات حكايتها الشخصية أمام الطبيب النفسي «سايمون جوردن» في صورة سينمائية أخاذة.
وكما يبدو، لا تنفصل الحياكة عن قول الحكاية بشيء، إذ يمكننا إحداث تغيير بسيط في نمط الحياكة أو نمط الحكاية، إن كان ذلك يدفعنا لشعورٍ بالغبطة أو المواربة، وأجزمُ بأنّ هذا ما كانت آتوود وغريس -على حدٍ سواء- يدفعان للتورط به طوال الوقت!
الخادمة «غريس» فتاة جميلة وصغيرة على نحو غير عادي، تغدو من أشهر النساء في كندا وأمريكا، حيث أدينت وعمرها 16 سنة بقضية قتل.
وقعتْ الأحداث الحقيقية عام 1843، ووصفت الصحافة الأمر: «بالانحطاط اليائس في الطبقة الدنيا!».
في هذه الرواية المُترجمة، والصادرة عن دار روايات 2021، ترجمة نوف السعيدية، لا تكتفي آتوود بتموجات السطح الخارجي للجريمة، بل تُدخلنا عميقا في الحساسية الأكثر توترا في روح بطلتها. لا تُثير التشويق العابر الذي سرعان ما ينطفئ، بل تتأمل تناقضات النفس البشرية وظرفها غير العادل، مُتكئة على هذا السؤال: هل كانت غريس شيطان مُحرض أم ضحية يائسة؟
«لا يوجد يقين من أنّها مجنونة، أو قاتلة وستبقى حياتها لغزًا، ومادة كتابة جيدة»، هذا ما قالته آتوود التي كتبت روايتها مستعينة بسجلات السجن ورسائل الأطباء، وما كُتب في الصحف، مُعرجة على النظريات المُتولدة في القرن الـ19 للأمراض العقلية، وأيضا على طبيعة الحياة التي يخوضها الخدم آنذاك.
لم تكن مُعالجة آتوود الروائية هي الأولى لهذه القضية، فقد كتبت سوسانا مودي «الحياة في القصاص» 1853، بعد أن التقت بـ«غريس» شخصيا وسمعتْ منها، فالحكاية يُمكن أن تروى دائما وأبدا.
أنقذتْ «غريس» مرافعة محاميها، بينما ذهب شريكها في الجُرم إلى المشنقة. وربما يكون ما حمى غريس هو ادعاؤها بأنّها لا تحتفظ بذكرى الحدث الفعلي، فاتهمت بالجنون وأودعت في مصحة.
لم تكتفي آتوود بالقصّة التاريخية، رغم أنّها لم تُحدث تعديلا على الحدث الأساسي، ولكنها «كلما وجدتْ فجوات في تاريخ الشخصية الحقيقي، وجدتْ الحرية لتبتكر».
لم تفوت «غريس» الوقت لغرزة خياطة واحدة، حتى وهي تستمع لخبر العفو عنها. تلك البرهة الزمنية التي حولتها من موضوع رُعبٍ كقاتلة إلى موضوع شفقة كـ«بريئة»، بعد أن قضت 30 عاما في السجن.
وبالمناسبة نحن لا نكشف نهاية القصّة، لأنّ الرواية ببساطة غير معنية بأن تنفي الجُرم أو تثبته، حيث تأخذنا آتوود في رحلة الشك وعدم اليقين بشيء، مُستعرضة التباينات، بين من يراها تمثيلية تافهة، وبين من يرى اضطراب «غريس» الذهني بجلاء، فيبقى القارئ مذهولًا وعالقًا في عقلها وذكرياتها.. على عكس ما حدث في الترجمة الأولى للعربية عام 2005، فقد كان العنوان «المُذنبة»، كأنّما يُعطي دلالة قطعية بالذنب، بينما الرواية لا تُفصح عن ذلك صراحة!
وفي حديث لي مع المترجمة العُمانية نوف السعيدية، التي قدّمت العمل بجمال لا يوصف، قالت لي شيئا مُفاجئا، بأنّ أحد الأشياء التي سيفتقدها القارئ للعمل أو المشاهد للمسلسل -المأخوذ عن الرواية والذي يحمل العنوان نفسه على نتفيليكس، في ست حلقات مُكثفة، بدتْ لي مُخلصة بشكل لافت للرواية وللحوارات المُمتلئة ببعدها الفلسفي- ما سيفتقده القارئ والمشاهد على حد سواء، هو الاستعارة المبنية على أنماط حياكة الأغطية، فكل فصل في الكتاب يأخذ اسمه من نمط حياكة معروف. النسخة الإنجليزية من الكتاب الأصلي تأتي برسم توضيحي مرافق للاسم. ولكن للأسف لم تُدرج الرسومات في الترجمة ولا في المسلسل لأسباب تتعلق بحقوق التصميم.
في نهاية الرواية تجلس «غريس» لتخيط غطاء لها هذه المرّة، من نمط «شجرة الجنة»، المُحاطة بثعابين. فالقصة كما تقول: «تفقدُ معناها دون ثعبان أو اثنين»، تأخذ غريس شيئا من ثوب الصديقة ومن ثوب المقتولة ومن ثوب سجْنِها، وتضعها كقطع أساسية في الغطاء، «هكذا نُصبح جميعا معًا»!