ازرع شجرة

28 مايو 2024
28 مايو 2024

أستمتع كثيرًا بالجلوس في بهو الحديقة الصغيرة في فناء البيت، لا سيما في أوقات الإجازة الأسبوعية. أقضي ساعات طويلة بين المزروعات القليلة التي تظلل الفناء، أقلم الأطراف الناتئة من زهور النرجس الخضراء، وأزيل الأوساخ المتراكمة التي خلفتها أشجار الجهنمية الحمراء المتسلقة على جدران البيت، وأقص الأعشاب الخضراء الزائدة النابتة تحت أشجار النخيل المثمرة. ورغم أن هذا العمل يتطلب في بعض الأحيان، خصوصًا في أيام الصيف القائظة، التعرض لضربات الشمس والحرارة الشديدة، إلا أنني أجد فيه راحة وسعادة غامرة لا تتوافر في كثير من الأعمال التي نقوم بها، خصوصًا الأعمال الروتينية أمام شاشات الحواسيب الإلكترونية أو أجهزة الهواتف المحمولة أو شاشات التلفزيونات المسطحة.

تجلب لنا ملامسة الأرض ونبش التراب وتحسس النباتات السعادة والشعور بالراحة والاسترخاء رغمًا عن التعب البدني المصاحب لها. وكما تقول المراجع الطبية؛ فإن الالتحام بالأرض والتمرغ في التراب يجلب للإنسان العافية وراحة البال والاسترخاء وطول العمر، ويحول حياة الإنسان من البؤس إلى الطمأنينة، ومن الشقاء إلى السعادة. قد يكون السبب الحقيقي وراء ذلك هو أن الإنسان في البدء خلق من طين، والالتحام بالأرض والزرع يرجع الإنسان إلى أصله الطيني الأول حين تتعارف المكونات الكيميائية للإنسان مع مكونات الطين الأساسية.

الدراسات الطبية المنشورة على المجلات الطبية تشير إلى أن الاهتمام بزراعة النباتات في الحدائق يساعد في التقليل من كثير من الأمراض كضغط الدم، وتحسين الذاكرة، وتقليل التوتر. وفي دراسة علمية أخرى نشرتها جامعة كولورادو الأمريكية، قالت: إن الاهتمام بالزراعة وري المزروعات والعناية بالنباتات يعادل ممارسة الرياضات الإجهادية مثل الركض والجري، لما لها من فائدة في تحسين المزاج والصحة النفسية، وتسهم في تحريك أعضاء الجسم كاملة، وتساعد على تنقية الجهاز التنفسي من الشوائب.

علاقتي بالزراعة والاهتمام بالنباتات بدأت منذ نعومة الأظفار، حالي في ذلك حال الكثير من أقراني ممن نشأوا في بيوت بنيت أغلبها بين المزارع والضواحي، فتداخلت الأشجار مع البيوت حتى صارت كتلة واحدة لا يوجد فرق كبير بين داخل البيت وخارجه. وفي أحيان كثيرة تزرع الأشجار والنخيل في فناء البيت بين الغرف الداخلية، أو يتوسط تلك البيوت شجرة زمّ كبيرة تكون بمثابة نقطة التواصل بين بيت الطين أو الإسمنت وبين الأرض العارية التي لم تلوثها مشتقات الإسمنت الكثيرة. تلك العلاقة المتلازمة بيني وبين الأرض والزرع استمرت ولا تزال على مدى عقود من الزمن، لا أشعر بالراحة والسعادة سوى بين تلك الأشجار والنخيل التي تظلل بيتنا، ولا زلت أجد المتعة الكبيرة في الجلوس بين أشجار النخيل والورود وكل ما فيه ورقة خضراء.

حياتنا الحديثة والبيوت الإسمنتية والتخطيط العمراني غير السليم فرض علينا نوعًا من العزلة بيننا نحن البشر وبين الأرض والزرع الأخضر. لم تعد البيوت خضراء كما كانت، بل أصبحت جرداء قاحلة تضج بالحرارة المرتفعة، وهذا ما انعكس سلبًا على حياة الإنسان الحديث الذي بات هشًا من داخله، غير محافظ على هدوئه الداخلي، كثير الأمراض والعلل، يشتكي من أمراض في التنفس وآلام في المفاصل واعتلال في المزاج والصفاء وقلة في السعادة والطمأنينة.

مما أذكره في سابق عهدي أن المدرسة كانت تشجع على الفلاحة والزراعة والسقي والالتحام بالأشجار والنباتات، فكنا نخرج في حصص أسبوعية في فناء المدرسة أو تنظم لنا بعض الزيارات لمزارع كبيرة نتعلم فيها فنون الزراعة والري والتسميد، وكنا نخرج من تلك الحصص بفوائد عظيمة لا تزال حتى اللحظة عالقة في قعر الذاكرة. حتى تلك الحصص الزراعية المدرسية انقرضت بمجيء مناهج التعليم الحديث التي لم تعد تشجع الطالب على الخروج من الفصل وتعلم مهارات حياتية جديدة مثل الزراعة والسقي والاهتمام بالحدائق واللون الأخضر.

كم بتنا نحن إلى الأيام التي كان اللون الأخضر فيها طاغيًا على الألوان الأخرى، وكانت الحياة فيها نظيفة وأكثر صحة ونقاء، ولم نكن بحاجة إلى استشارة طبيب نفسي أو عضوي بسبب ضغوطات الحياة ومتاعبها؛ لأن الأشجار كانت تقوم بذلك العمل في يوم من الأيام.