"إن جفوتَ معلما"!
في حوارات خاطفة مع مراحل عُمرية مختلفة من طلاب المدارس، كان يُؤسفني حقا، تذبذب مشاعرهم إزاء فكرة العودة إلى المدرسة رغم الغياب الطويل، وكنتُ أتساءل إن كان مردُّ ذلك ولع الأبناء بالترفيه العابر واليومي أو مردّه أنّنا لم ننتج بيئة تعليمية جاذبة! الأمر الذي كرّس نتائج عكسية، "فخلق كُرها للعلم ونبذا للتعلم ومقتا للكتب"، كما كتب أحدهم مُعلقا على قيام بعض الطلاب بتمزيق كتبهم بعد انتهاء الامتحانات!
كثيرا ما تُكال التُهم الجاهزة في وجه المُعلم المُتصدي الأول للضربات، رغم أنّ مسألة التعليم أكثر تعقيدا في عمقها مما قد يظهر على السطح.
فقبل أن ننتقد المعلم الذي لم يتجاوز بعد، محنة التلقين وتعليب الإجابات، المعلم الذي لم يُدرب أبناءنا على فن الإصغاء والحوار وإبداء الرأي، قبل أن نغضب ونقول: لماذا أولادنا غير محميين من تنمر بعض الرفاق بالصورة الكافية، وقبل أن نقول: لماذا يلجأ المعلم للضرب في بعض المدارس فيرضخ الأبناء للصمت أو يكابدون مشقة الكراهية العمياء. قبل أن نتفاجأ بقبول المعلم للبحوث المكتبية الجاهزة أو المشاريع التي يصنعها الأهل، والتي يذهب جُلّها إلى سلّة المهملات، دون أن يتفحصها المعلم أو يتأكد إن كانت من جهد الطالب الشخصي أو عملا مدفوعا لقاء درجة كاملة، قبل أن يملأنا الضيق من المعلم الذي نُسلمه فلاذات أكبادنا، فنجده لا يبدع ولا يبتكر ولا يُمتع بأساليب التعليم الحديثة، بل يتحول في بعض الأحيان إلى كائنٍ مُتشنجٍ ومتذمرٍ وغير مُبالٍ..
قبل أن نطلق كل هذه الأحكام، علينا أن نلتفت جميعا وننظر لهذا المُعلم المُنهك والذي قد لا يُشغل باله أكثر من عدّ السنوات كي يحظى بالتقاعد. المعلم المخنوق والمُكبل بالأعباء، تلك التي تخرج معه صباحا إلى المدرسة، ثمّ تعود لتلاحقه في بيته، دفاتر التصحيح والتحضير اليومي، الاختبارات والمشاريع والأنشطة، بصورة تجعله مُتآكلا من الداخل ومسحوقا، تجعله مُستنزفا مُستسلما للحد الأدنى من العطاء!
كيف يُمكننا أن نُحدث نقلة في التعليم الحكومي، فيما نطلب من المعلم أن يُحدث معجزة، وأن ينشطر إلى نصفين بين التعليم الواقعي والافتراضي! في ظل تحديد نصابه من الحصص بين 25 إلى 28 حصة في الأسبوع، وفي ظل صفوف تصل ذروتها إلى 40 طالبا في الصف الواحد، هذا بالضبط يعني "أننا نملأ الدلاء لا نوقد الشموع"، بحسب تعبير الشاعر الإنجليزي ويليام بتلر ييتس.
فرغم أنّ ظرف جائحة كوفيد-19، مرّ عليه الآن ما يقارب العامين، إلا أنّ قرارات وزارة التربية والتعليم تصل متأخرة كما يبدو، بشأن كل شيء، ابتداء من صيانة المدارس ونظافتها، وليس انتهاء إلى جاهزية الكتب وأنصبة المعلمين من الحصص!
ولا ندري حقا إلى أي درجة تُفكر الوزارة باستثمار تجربة التعليم الإلكتروني وفكرة المنصات! فليس بحوزة الطلبة في المدارس أجهزة التعلم الحديثة، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يُكابدها الناس ستغدو إمكانية أن يطبعوا الكتب المدرسية الإلكترونية على نفقاتهم الخاصة أمرا لا يقل فداحة!
ولا أظن أنّه من الملائم معالجة نقص عدد المعلمين بطريقة أكثر ضررا. صحيح أنّ التوظيف لم يُغطِ بعد النقص الذي أحدثه خروج المتقاعدين في الكثير من الجهات، باعتبار أنّ الأمر يلزمه المزيد من الوقت والتروي، ولكن التنازل عن ذلك في المؤسسة التعليمية، سيغدو كارثيا بمرور الوقت، لأننا قياسا بالأثر الذي سيحدثه سنلقى أنفسنا في آخر الركب التعليمي!
الضرر هنا لا يؤثر على أفراد ولا على مجموعات وإنّما على مجتمع بأكمله وعلى مستقبل عُمان. فلا ضرورة للتذكير أنّ كثيرا من دول العالم المتأخر التحقت بالعالم المتحضر قياسا بأدائها المتفرد في صياغة استراتيجيات التعليم!
ما ينبغي أن تُراهن عليه عُمان الآن هو التعليم، باعتباره صانع العقول الفارقة والمُنتظرة. والمسألة تبدأ من إعادة المكانة للمعلم والعلم معا، والسعي وراء التجويد لا الترقيع، وإلا سيكون وضعنا كما وصف الإمام الشافعي: "واصبر لجهلك إنْ جفوت مُعلما".