«إنّ الإنسان ليطغى»
حرضتني الحرب الهمجية، التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي حاليًا على غزة ومناطق فلسطينية أُخرى بدعم من قُوى عالمية مختلفة، للكتابة عن استبداد الإنسان وجبروته وقسوته تجاه أخيه الإنسان، إذا ما امتلك القوة والنفوذ.
وما إن شرعت في ذلك حتى خطرت ببالي الآية الكريمة من «سورة العلق» التي يقول فيها سبحانه وتعالى: (كلّا إنّ الإنسانَ ليطغى، أن رآه استغنى)، هذه الآية التي فسرها القرطبي بقوله: «إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأنه رأى نفسه قد استغنت استغناءً يدفعه للاستبداد والتمادي في العصيان».
والآية إنما تُوصِف حال المُستبد من يملك أدوات الهيمنة في مختلف العصور والأزمنة، فلا تكاد تخلو مرحلة من مراحل التاريخ من وجود طُغاة جائرين يعيثون في الأرض فسادًا، لا يتسع المجال لذِكرهم، غير أن فرعون موسى لا شك هو الأبرز كونه بلغ ذروة الجبروت عندما خاطب قومه قائلا: (أنا ربكم الأعلى).
كما لم تغب عن ذهني الحادثة التي أوردها سماحة الشيخ الجليل أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان في كتابه الشهير «الاستبداد - مظاهره ومواجهته»- التي تُدونُ لبطش الإنسان واستعلائه في
الأرض زمن الفراعنة.
وقد جاء في القصة أن الفرعون «أمفيس»، الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد أمر رجلا ثريا شريفا اسمه (إخناتون) أن يتنازل له عن زوجاته وأراضيه وكل ما يملك، فطلب الرجل الاحتفاظ بداره وقليل من ماله ليُعينه على العيش، لكن ذلك أثقل على الفرعون بل أمر بتعذيبه وتقطيع يديه ورجليه وجدعِ أنفه.
دارت الأيام وإخناتون يعاني الفقر والحرمان وكل أمله القصاص من الفرعون الظالم.. لكنه ويا للغرابة عندما مات وكان الكهنة يُلقون خُطب الوداع التي تُثني عليه كذبًا، شوهد إخناتون يبكي بكاء الثكلى وقد تأثر بحزن الناس عليه، فلام نفسه وقرّعها لأنه غضب يومًا من «أمفيس» حتى بلغ حدا أن قال: لقد كان على حق فيما فعل بي لأنني لم أستجب لأوامر الآلهة.
وفي هذا العصر تتبدى أبشع صور التنكيل وأقبحها في الممارسات غير الإنسانية التي يمارسها العدو الصهيوني بحق سكان غزة بما فيها قتل الأطفال بدم بارد وترميل النساء وطمس القرى والبيوت والمجمعات السكنية ودُور العبادة بدعم صريح ومباشر من الغرب وسط صمت وعجز عالمي مُخزٍ، وهي صورة قاتمة لما وصل إليه إنسان العصر من عنجهية ودليل لا لبس فيه على سقوط القيم الإنسانية والأخلاق التي جاءت بها الشرائع السماوية سقوطا مدويا.
أخيرا.. لا يُدهشني طلب المواطن الفلسطيني للموت مقابل عزته وكرامته وتحرير أرضه، ذلك لأنه متفطن لحقيقة أنه لن يحيا إلا لمرة واحدة ولا يوجد من يملك قدرة مصادرة حريته وقهر كرامته، لذا يفضل أن يعيش بكرامة أو يموت بكرامة.
آخر نقطة..
يتساءل البعض كيف لهذا الفلسطيني المقاوم أن يُقبل على الموت بمحبة؟ وكيف يزف أطفاله وأحبابه وأقرباؤه إلى قبورهم بفرح ودون جزع؟ نسي أن الفلسطيني ليس «أحرص الناس على حياة» وأنه يختار باستشهاده ذلك حياة أُخرى دائمة لا موت فيها ولا مرض ولا ضنك ولا عوز ولا تعب.
عمر العبري كاتب عماني