إقناع الغني أنه غني
سئلت هاريت تابمان -محررة العبيد في أمريكا- عن أصعب موقف واجهها في نضالها ضد العبودية، عبارتها الشهير: إقناع العبد أنه ليس عبدا، فقد واجهت تابمان مقاومة من كثير من العبيد لتحريرهم.
خلال عملي تواجهني كثير من الحالات لأناس وصلوا درجة من الثراء لكن هذا الثراء لا ينعكس عليهم لا داخليا ولا خارجيا، فمن الداخل يسيطر عليهم شعور العوز، مما يجعلهم يقضون حياتهم في الكسب، وتجميع الأموال والأصول، ومهما بلغ حجم ما يملكون فإنهم لا يشعرون بالكفاية، وقد يظن من يسمعهم بأنهم يتظاهرون بعدم الكفاية، لكن الحقيقة أن هذا ما يشعرون به حقا.
وخارجيا، ترى هذا الشعور بالعوز ينعكس على أسلوب حياتهم، ومظهرهم العام، وفي حديثهم مع الآخرين.
البعض قضى عقودا في الادخار، والاكتناز بهدف تأمين المستقبل، الذي لم يضع له تعريفا للأسف الشديد، فمرت سنوات كبر فيها الأولاد وشقوا طريقهم بعيدا عنه، ووهن هو في العمر واعتلت صحته، ولم يأت المستقبل الذي يدخر له، فعاش حياته يجتهد ليل نهار في وظيفة يمقتها، مع زملاء لا يجمعه بهم سوى الشك والخوف، وحياة تقشف حرم نفسه وأولاده خلالها أبسط أشكال الرفاهية التي تتيحها أوضاعه المالية.
هؤلاء لم يحددوا مفهوما واضحا للثراء، حتى إذا ما وصله يستطيع التوقف والاستمتاع به، لأنه مهما بلغ بك الثراء فسيكون هناك من هو أثرى منك، وسيكون هناك سيارة أفخم من سيارتك، وبيتا أكبر من بيتك، وهلم جرى، و الوقت يمضي سريعا بدون أن نشعر، والأولاد الذين تدخر لهم سيكبرون سريعا، وستكون لهم حياتهم الخاصة بعيدا عنك، وسيحملون ذكرى الحرمان الأليمة معهم، وسيزيد الشعور بالمرارة عندما تموت، ويكتشفون الملايين المكدسة طوال هذه السنون، في حين عاشوا هم حرمانا قاسيا.
ومن يعلم قد يطول بك العمر، تغادر هذه الحياة وقد شاخوا هم أيضا، ولن يتسنى لهم حتى بعد موتك الاستمتاع بهذا المال.
قد يظن البعض أن في هذا المقال نوعا من المبالغة، لكن للأسف هذه نماذج تعيش بيننا فعلا، تحتاج وقفة مع الذات ليس إلا لتعريف مفهوم الثراء، وتحديد قدر معين من ثرواتهم للمستقبل، حتى لا يجعله الادخار للمستقبل ينسى عيش الحاضر.