إبراهيم الكوني.. صوت الحنين المفقود
حضرت قبل أيام في مدينة أغادير المغربية ملتقى الرواية والصحراء في دورته السابعة، بتنظيم من رابطة أدباء الجنوب وبيت الرواية في المغرب، وقد كرّم الملتقى الكاتب والروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني أحد أهم خمسين روائيا في العالم الذي تُرجمت رواياته إلى كل لغات العالم. ينتمي الكوني إلى إحدى قبائل الطوارق في ليبيا، وقد كتب عن ثقافته الأم بإخلاص منقطع النظير. فهو ابن الواحات وقفار الصحاري، ولكن منذ خروجه من فردوس الصحراء -كما يصفه- لم يعد إليه إلا حنينا وذكرى، فالواحة التي تعلّم فيها أولى أبجديات اللغة ومفردات العربية، اغترب عنها في أصقاع الأرض في روسيا وسويسرا وحاليا في برشلونة بإسبانيا.
كان ملتقى الرواية والصحراء فرصة لي للإنصات والحديث عن قرب مع إبراهيم الكوني الذي يقول إنه يعاني أحيانا من عدم فهم بعض القراء لما يكتبه، لاعتقادهم بأنه يكتبه عن الصحراء كجغرافيا وليس كوجود وحقيقة. قابلت الكوني في أكثر من مناسبة كانت الأولى في معرض كتاب تونس 2006، والمرة الثانية في مسقط 2011، أثناء بداية الأحداث الليبية، لكنني لم أتحدث معه حول أعماله إلا هذه المرة التي أسعفنا فيها الوقت بالإنصات والحديث معه لعدة ساعات، كانت عوالم الصحراء والرعي مادة الحكي والنقاش. وقد تعلقت بأعماله منذ اطلاعي على روايته التبر، لذلك تمثل لي أعماله شخصيا الكثير؛ لأنها تستثمر الميثولوجيا كمادة للحكاية، ربما لقربي من الميثولوجيا الظفارية، وانغماسي في ناموسها في الصغر، إذا كانت أولى العتبات لي في التكوين المعرفي وعلاقتي بالمحيط البيئي.
تحدث الكوني في الملتقى المُكرم فيه بأنه يفتخر بامازيغيته وعروبته ولغة السماء التي يصيغ بها المعاني وينحت بها المفردات، فهو يمارس طقوسا قاسية في الكتابة منها الصيام الطويل، والكتابة بالقلم، إذ يقول: إن نزيف الحبر هو في الحقيقة نزيف الروح. كانت زوجته مريم التي تضطلع بأعمال الطباعة وإدارة أعماله مرافقة الدائمة له، تشرف على راحته ونجاح لقاءاته.
يتخذ الكوني حياة الطوارق الرُحَّل مادة في الكتابة، يكتب الفكرة المغلفة بالميثولوجيا الطارقية ثم يبني عليها ملاحمه، فأوخيد مثلا بطل رواية التبر التي تعد من أهم أعمال الكوني، هي شخصية حقيقية كانت تجوب الصحراء على ظهر جمله الأبلق، ويمر على خيمة الكوني أثناء ترحاله الدؤوب، يمارس أوخيد حياة التقشف والزهد في الحياة، كأنه يحن إلى الفردوس المفقود في السماء التي نزل منها بعد الخطيئة، لهذا يفرح المرء المنغمس في ذاته حين تأتي لحظة الموت، فالموت يخلص من الجسد الذي يمنع رؤية الله.
وفي رده على سؤال غياب المرأة في أعمال الكوني كعنصر مؤثر وإيجابي، قال الكوني: إنه يكتب عن المرأة كما هي في قانون الصحراء، وليس كما يريد الكاتب؛ فالمرأة في حياة الترحال تحاول ممارسة دورها الطبيعي في الاستقرار كإنجاب الأطفال، ونصب الخيام، والتوقف عن التنقل، وهي بذلك تخالف ناموس الصحراء المحفز دائما على التخلي عن كل شيء واتباع الأساليب القديمة في الرعي والترحال. تلك الحياة التي يعنيها الكوني في أعماله الروائية نفهمها نحن رعاة الإبل الذين لا نترك شيئا خلفنا إلا الرماد والرمال، حين كانت الحياة تحرّضنا على الانتقال، قبل أن تسلبنا حياة التمدن والتحضر متعة الانتقال على البسيطة.
كتب الكوني عن حياة لم يعِشها واقعيا، لكنه هو المتوحد مع الطبيعة يستطيع التعبير عما يستشعره أو عما تمثله روحه في الصحراء، وعندما أنهيت قراءة روايته ناقة الله التي يراها البعض الجزء الثاني من رواية التبر، تساءلت هل كان يعني الكوني ناقتنا ديركان التي تنزع إلى أمطار الخريف، وتتخلى عن حورها عندما يحرّضها الحنين على الانتقال من منطقة إقامتنا في صوب إلى وادي شعبون، وهل كتب عن رعاة الإبل الذين عايشتهم، وهم يتحلقون حول النار في تجمع سمري كل ليلة أو صباح وهم يتناقشون أمور الرعي.
إن ما يعنينا من الكوني نصوصه وليس شخوصه، الحس الإنساني في الكلمات، والعمق المعرفي في المعنى هو ما سيبقى من أعمال الكوني، فهو قدم للعالم حياة الطوارق الذين لا يعرفهم أحد إلا عبر الصورة النمطية المتمثلة في اللثام الأزرق، ولكن فلسفة الصحراء وميثولوجيا الثقافة الطارقية لن تجد أحدا يكتبها ويوظفها أفضل من إبراهيم الكوني.