أولادنا بين الملل والاستلاب والسطحية!
تقول لنا أمّي بتعجب: "ربيت ثمانية أبناء ولم أسمع كلمة ملل!"، بينما الأحفاد الآن وبمجرد سحب الأجهزة من بين أيديهم يرددونها بصورة مُضجرة. وليس علينا في حقيقة الأمر سوى أن نتعاطف معهم، فلقد قضينا طفولتنا نحن جيل الثمانينيات ومن سبقونا بين أعمال المزارع وصخبها ولعبها اللامتناهي، حتى أننا كنا لا نصدق أنّ اليوم قد انتهى إلا عند عودة العصافير في نشيدها المتوهج ورفع آذان المغرب.
ولذا من الطبيعي أن يقول أبناء الألفية الجديدة وإن بصورة مُبطنة: "إن كنت ستحرمني من الأجهزة الإلكترونية فعليك أن تعطيني البديل"، الأمر الذي يُشكل ضغطا هائلا على الآباء الجدد.
ففي السابق كانت الطبيعة الحرّة والجيران والمجتمع المتداخل يسهمون في عون الأهالي على التربية، والآن كل ما نفعله هو بناء المزيد من الجسور والمخاوف من عدوٍ يمكثُ في الخارج بينما يمكن أن يربض العدو الحقيقي داخل بيوتنا!
في الإجازة الصيفية وفي ظل درجات الحرارة الملتهبة، يقضي أغلبُ أبنائنا سحابة نهاراتهم وساعات من ليلهم عاكفين على شاشاتهم وألعابهم الإلكترونية، مُنعزلين في غرفهم الأسمنتية، تستحوذُ عليهم تلك الوحوش التي أينعت بين أيديهم فصاروا لا يحتملون فراقها.
قد يبدو الأمر مريحا لبعض الأهالي -الذين يظنون بأنّهم يخنقون الصخب والصراخ والفوضى- دون أن يُدركوا احتمال أن يكون صمتهم جمر تحت الرماد الساكن. أبناء مُستلبين بصورة شبه كاملة لبرامج ومشاهدات ليس باستطاعتنا مجاراتها، مخطوفين من الحياة الواقعية بصورة تستدعي أن نقرع جرس الإنذار.
من المؤكد أننا لسنا وحدنا في هذا المأزق، فالعالم بأسره يُكابد مشقة دخول التكنولوجيا -بخيرها وشرها- لأدق تفاصيل الحياة، لكن ذلك لا يعني أن تستسلم المؤسسات الرسمية والأهالي عن الاستمرار في توفير البدائل، فإن كان هذا قدرنا في ظل تسارع المتغيرات من حولنا، فماذا يمكننا أن نفعل لجعل الأمور تمضي على نحو جيد، دون تنصلٍ من معطيات العصر ودون مضي ساذج نحوها!
رفاهية العيش التي يُحسد عليها الآباء الجدد مقارنة بأجداد أجدادهم، تُرينا أنّ المشقة تكمن في مكان آخر. فتصوروا أن يضاف لمهامهم مهمة دفع أبنائهم لأن
يُحركوا أجسادهم وعقولهم وأن يعيدوا اتصالهم بالحياة الواقعية!
قليل من الأسر تثمنُ الآن فكرة "العائلة"، الأمر الذي يُزعزع الكثير من القيم بصورة بطيئة قد لا تتبدى آثارها الآن بوضوح. يكابدون الصمت والانزواء لدرجة أنّ أحدهم قد لا يعرف ما يحصل لأهل البيت الذين يشاركونه السقف ذاته!
لكن وعلى الضفة الأخرى ثمّة أهالي يبذلون قصارى جهدهم لخلق البدائل لأبنائهم، يفتشون عن الدورات وورش العمل، إذ ليس باستطاعة الجميع حجز تذاكر السفر لترفيه أبنائهم!
فنقع بين خيارين: إمّا أنشطة مدروسة ومكثفة لكنها مُكلفة، وإمّا رخيصة وهزيلة المحتوى، بل قد يقدمها من لا ناقة له ولا جمل بالموضوع، من أجل كسب المال بصورة سريعة! أو أنشطة تغرفُ من البئر ذاته، فلا تُجاري شغف الطفل ومعارفه ولا تتحدث إليه بلغته!
يرى البعض أنّ العاصمة مسقط تحظى بنصيب وافر من الأنشطة، والسؤال: في ظل استقلال المحافظات المادي، ألا يتحتم عليها أن تتنافس فيما بينها في هذا القطاع المهم؟
فعلى الرغم من أنّ الطفل والمراهق هما صمام أمان المستقبل، إلا أنّهما لا يُشكلان أولية حتى اللحظة، فكل الأنشطة التي ينبغي أن تستهدفهما ما تزال مُتشرذمة وتقف وراءها مؤسسات مختلفة، ويتم الاستحواذ عليها ما أن يُعلن عنها!
والسؤال: لماذا لا تكون هناك مظلة معنية بالطفل والمراهق وبكل ما يتعلق بهما؟ لماذا لا تكون هناك خطة متكاملة تستوعب من هم دون الثامنة عشرة سنة؟
العجيب أنّ القطاع الخاص أيضا لم ينجح بعد في أن يستثمر في هذه المنطقة، رغم أنّه قطاع حيوي ومربح، فمنذ فترة الثمانينيات ونحن نشاهد أفلام الأبيض والأسود ونحلم بفكرة "النوادي" والاشتراكات السنوية التي تُؤمن للطفل أن يُشارك في أنشطة متنوعة ثقافية ورياضية واجتماعية.
نحلم بمشاركة أبنائنا في معسكرات صيفية داخلية وخارجية، على أن تكون جادة وعميقة لا أن تخدعنا بإعلانات منمقة وبراقة ثمّ نكتشف مدى سطحيتها!