أوّلُ القَصَصِ «1»

09 يوليو 2024
09 يوليو 2024

قرأتُ كتاب «ألف ليلة» في سِنٍّ مبكِّرة، كُنتُ طفلًا في المراحل الابتدائيّة، عندما وجدتُ جزءًا من أربعة أجزاء لألف ليلة وليلة في نُسْخة قديمة، مهترئة، مُمَزّق غلافها الخارجيّ، في مكتبةٍ تبيع الكتب القديمة، قرب مدرستي الابتدائيّة التي تُسمّى «مدرسة السيّد» أو «مدرسة الحجّام»، والتسميتان تيمّنًا بالحيّ الذي يحوي مقام الصحابي الجليل الذي يُعْتَقَد أنّه حلاّق أو حجّام الرسول عليه الصلاة والسّلام، وهو سيّد لأنّنا ننعت الأولياء والصالحين بعبارة «سِيدِي». وجدتُ الجزء الثاني من رباعيّ الأجزاء، في طبعةٍ حجريّة، رديئةٍ وبسبب ثمنها الزهيد امتلكتُها وهِمتُ بها، في غياب مصادر التسلية والإلْهاء في زماننا، كانت القصّة هي العوالم التي تفتح لي فضاءات المُتْعة، لم يكن التلفاز يعْرِض شيئًا مُمَتّعًا للطفولة سوى حلقة من الصُوَر المتحرِّكة من الخامسة إلى الخامسة والنصف مساء تقريبًا، وكان فلم ليلة الأحد بالأسود والأبيض مملّا في العادة، وما عدا ذلك، كنت أتابعُ القصص القديم أساسًا، في الكتب الرخيصة.

كان كتابُ «ألف ليلة وليلة» ثروة هائلة لي؛ لأنّ قصصه لا تنتهي، وبِتُّ متشوّقًا لتحصيل الأجزاء الباقية، التي قضيتُ معها مراحل الإعداديّة. تبيّن لي الآن، أنّي وقعتُ في وهْم غرسوه فينا، وهذا الوهْم ماثِلٌ في الفكرة القارّة أنّ كتاب «ألف ليلة وليلة» هو قصص مُترجم عن أصْل فارسي أو عن أصْل هندي، وأنّ انتماءه إلى الثقافة العربيّة هو انتماء ترجمة فقط، وهي فكرةٌ وهْمٌ يجوز لي -وقد قطعتُ من البحث أشواطا في السرديّة العربيّة- أن أقول بيقينٍ وحزمٍ وثباتٍ أنّ «ألف ليلة وليلة» هو قصصٌ عربيّ خالصٌ، ولا صلة له بالثقافة الهنديّة أو الفارسيّة إلاّ الصلة المعهودة في التناول القصصيّ ارتحالًا عبر الأمم والحضارات، وأنّه ضاربٌ بجذوره في مرويّات عربيّة شعبيّة وعالمة. وفي عودتي إلى النصوص السرديّة المؤسّسة للقصص قي التراث العربيّ أدركتُ كمًّا من الحكايات تشفّ عن قوّة مخيّلة العرب في الإنتاج القصصي (رغم أنّ الإجماع النقديّ يُعطّل التخييل العربيّ في الشعر الجاهلي، ويشدّه إلى المحسوس)، ولعلّ هذه الملامح المبينة عن قوّة التلقّي القصصيّ بادية بشكل بيّن في الخطاب القرآنيّ الذي توسَّل بالقصص واسطةَ تأثيرٍ وتبكيتٍ، ونَهى عن الشعر، ورذّل السواد الأعظم من الشعراء، وحثّ على القصص، وهذا موضوعٌ طويلٌ ليس هو مقصدنا، وإنّما قصْدنا الإشارة إلى نُصُوص من أصول القصص العربي، نبتت من عُمق الحضارة العربيّة، وفتّحت أبواب السرد، وساهمت بدرجات فاعلة في بناء تُراث سرديّ كونيّ على شاكلة «ألف ليلة وليلة». لا شكّ أنّ مجالات الحكايات القديمة -تأصيلا للأصول- كانت محدودة، تدور في فضاءات عالمةٍ من جهةٍ، وشعبيّةٍ من جهة ثانية، ولذلك أسّست هذه الأصول القصصيّة لِلَبِنات القصص العالِم والقصص الشعبيّ في الآن ذاته. ولتوضيح ذلك، فإنّه من الجدير أن نقف على هذه الأصول التي كوّنت النَّوى القصصيّة التي خاض فيها العُلماء وتلقّفها رُواة الساحات من بعْد ذلك. هنالك كتابٌ أوّل عُدّ من الكُتُب الفواتح في إقامة القصصيّات العربيّة الأصليّة، وهو كتابُ وهْب بن منبّه «التيجان في مُلُوك حميَر»، وهو كتابٌ على درجةٍ كُبرى من الأهميّة، لاحتوائه النوى القصصيّة التي شكّلت المسارات الكُبرى للقصص العربيّ اللاّحق، ولاحتوائه على كتاب أصليّ تأصيليّ له منزلة المصدر المُولِّد، الباعث لآفاقٍ ممكنةٍ في بنية القصص العربيّ، وهو كتاب «أخبار عبيد بن شريّة الجرهميّ في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» الذي ورد في ذيل كتاب وهب منبّه، وهو كتابٌ مُستَنَدٌ يعرض للقبائل اليمنيّة وإلى أصولها ووقائعها وأهمّ حوادثها، وقد كان منشأ هذه الأخبار في مقام مُسامرة يُطلَب فيه أحاديث من مضى، وهو مقامُ سلطة سياسيّة قائمة (تمثّلت في معاوية بن أبي سفيان الذي دعا الراوية إلى مجلسه) تدعو أخباريًّا عارفًا عالمًا معمّرًا، وتُوجّه رواية أخباره بأسئلة يجيب عليها المسؤول بكلّ دقّة وتفصيل (كان معاوية محبّا للسمر، محبّا للإنصات لأخبار السابقين، سائلا عن ماضي العرب، وعن أصولهم، وعن حوادثهم)، وهو مقامٌ يتداخل فيه الأسطوري التخييلي مع ممكن التاريخيّ. فلم يكن هذا الأصل الأوّل، الناتج عن مرويّات عُبيد بن شريّة الجُرْهميّ، مُقتَصِرًا على تاريخ اليمن في حدوده الكبرى، وإنّما كان كتاب قصص يروي حكايات الأنساب، وحكايات الملوك والأبطال، وقصص الأنبياء، في بابٍ من القصص تَفتّح في الثقافة العربيّة الإسلاميّة لإدخال المرويّات الإسرائيليّة الدارجة في الثقافة اليهوديّة والمكوّنة لرؤيتها حول الخلْق، والبدايات الأولى، وهي الرؤية التي سادت من بعد ذلك في المرويّات العربيّة لأصل الكون. كتابُ وهْب بن منبّه ومرويّات عُبيد بن شريّة الجرهميّ، قدّما للثقافة العربيّة الرؤية القصصيّة لنشأة العالم، وقدّما قصّة الخلق، وقد مَزَجاها بِحدود التصوّر القرآنيّ المُعلَن، وفي الوقت نفسه استغلا الفراغات القصصيّة لِملْئها بقَصَص دارج في الفضاء اليهوديّ، وهي الظاهرة التي سُمّيت بالإسرائيليّات، بيانا لدخول القصص الإسرائيلي تفسير القرآن خاصّة في تفسير الطبري.

هذه النوى القصصيّة إن تتبّعناها جيّدا خاصّة في كتاب «التيجان» شكلًا قصصيًّا ومضمونًا حكائيًّا وجدنا لها علائق وصِلات بما اكتمل في كتاب «ألف ليلة وليلة»، ولذلك، ارتأينا أنْ نتتبّع هذه الأصول وأن نُنبّه الباحثين إلى أنّ حضارة العرب هي حضارةُ بناءٍ قصصيّ، وأنّ إيجاد شخصيّة عُبيد بن شريّة الجُرهمي، المُختلَف حول اسْمها ووجودها وأثَرها، هو بحثٌ عن مصْدرٍ قابل لِحمْل قصص متفرّق، دارج، رائج، تمثّل في صُورتين في الثقافة الإسلاميّة، صُورة تميم الداري، الذي مُنِعَ من القصص زمن الخليفة عُمر بن الخطّاب بالرغم من شرعيّته القصصيّة التي بانت في «حديث الجسّاسة» الذي رواه عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، والقاصّ النضر بن الحارث، ضديد رسول اللّه، والمتعهّد برواية أقاصيص الغابرين والأمم السالفة، الذي قُتِل مَقْتًا.

لقد تخصّص هذا القصص الذي قَبِلته الثقافة العالمة من وَهْب بن منبّه في بعْث مسارات قصصيّة خطيرة جدّا، إن أدخلناها التاريخ (وقد كان هذا الفعل)، ثريّة جدّا إن قبلناها على وجه التخييل.

مرويّات وهْب بن منبّه حدّدت الأنساب، وقصص الأنبياء، وقصص الملوك والأبطال، وقصص الأمم الغابرة، وكان أغلبها من أصْلٍ يهوديّ، أو من مرجعيّة يهوديّة، فهل كان لليهود الأثر الفاعل في ضبْطِ قصّتنا التي تُحدّد هويّتنا على حدّ عبارة ريكور؟