أهم مدينة في العالم
كان يمكن لغزة أن ترفع ذراعيها تحت سماء الجحيم وانهيار الكواكب، وأن تستسلم بعد جولات الطيران الأولى في الأسبوع الأول كي تتحول إلى عبرةٍ لمن لا يعتبر كما أراد لها العدو دائما أن تكون. كان يمكنها، ما يجوز لها، أن ترفع الراية البيضاء من تحت الأنقاض في الشهر الأول أو الثاني، أو الثالث بكثير، فتكون حينها قد أدت مشكورةً واجب الصمود الملحمي المتوقع منها في الدفاع اليائس لا عن كرامة الأمة بل عن كرامة الكرامة، قبل أن تختار إما السقوط في الأسر أو الانتحار على طريقة الأبطال التراجيديين في الملاحم. لكن غزة، المهتوكة السماءِ والبرِ والبحرِ، لم تنتحر ولم تسقط أسيرة سهلة في قبضة العدو. لقد اعتصمت بنفسها واختارت أن تستمر في الاستمرار عن طريق أسلوب واحد مكشوف، وهو المقاومة. ليس هذا تماما قدرها المحتوم كما يحلو لنا أن نقول ونتواكل، بل كان هذا خيارها وقرارها الاستراتيجي الذي ذهبت إليه واضحة صبيحة ذلك اليوم المتوتر بين النصر والكارثة الوشيكة.
إنها المدينة التي اختارت قدرها حين كان يمكنها الهروب منه، وهي أسطورية لهذا السبب بالضبط، لأنها اختارت قدرها. صدّقت نفسها واكتشفت مواهبها الخارقة في العزلة، عزلة الحصار المفروض عليها منذ قرابة الثمانية عشر عاما، وظلت تحيا في مؤقت أبدي، وتتنفس سرا عبر الأنفاق وهي تدرك أنها على بوابة مرحلة استعمارية جديدة من تاريخ «الشرق الأوسط» ترتِّب الأوراق لمحوها من الخارطة. وما يعصم غزة من الاستسلام الآن هو إحساسها العميق بالمسؤولية التاريخية المترتبة عليها بوصفها أهم عاصمة عربية في الحاضر والقادم من التاريخ. وهي الآن تمارس حلمها الشقي لأن تصبح، على طريقتها، مدينة عالمية: عاصمةً روحيةً للألم والإعجاز الصارخ بلا أنبياء، فمن يستطع كبت أحلامها؟ أليس من حقها أن تحلم كأي مدينة أخرى؟ وهل يستطيع الأعداء والأصدقاء، معا وعلى حِدة، إقناعها بأن تقنع وترضى بالقناعة؛ أي أن تختار بين الموت والمذلة؟
أهم الانتصارات الثقافية الكبرى لهذه المدينة أنها أعادت الاعتبار للمعنى السياسي والأخلاقي للمقاومة كمبدأ إنساني، بعد غياب طويل لهذه الكلمة عن لغة السياسة التي اتخذت من مصطلحات السوق والصفقات التجارية قاموسا لها، بينما تحجَّرت كلمة المقاومة في معناها كلفظة أدبية خشنة لم تعد رائقة حتى لمزاجِ الشعر الجديد وذائقة قُرَّائه ونقَّاده (إن وُجدوا) الحالمين بشعر مطهَّر بالمعقمات حائرٍ في غيبوبة المعاني. ما حدث ويحدث منذ أكثر مائتي يومٍ في الواقع هو أن المدينة المنكوبة التي تكابر إبادتها تعيدُ في خضم مكابرتها اكتشاف الأدب بطريقة لا تُصدَّق، تكتشفه لتعيد تشغيله وفقا للحاجة ومقتضيات الحال، فالأدب في زمن الإبادة لا بدَّ أن يكون أدب الحاجة والضرورة، وإلا لأصبحت الكلمات فراغا مُعلبا. أما الثقافة المقاومة التي تصدرها غزة اليوم فهي حرفة شعبية وسلوك مدني يومي لا يسعى لتفجير الحياة وإنما لبعثها من ركام الهزيمة والانسحاق، فإن كانت الحياة منحةً مجانية موهوبة لكل البشر في مختلف بلدان العالم، فإن الحياة بالنسبة للإنسان في غزة تحتاج إلى جدارة وصراع استحقاق مميت، فهي لا تمنح نفسها إلا بعد إثبات شاق وقاسٍ للجدارة التي قد تتطلب مداعبة الموت أحيانا على سبيل النجاة. إن بسالة الحزن في هذه المدينة الصامدة هي سر الفتنة وهي الكهرمان المحيّر؛ فهي تستحق تعاطف العالم الخارجي إلا أنها تثير إعجابه في الوقت نفسه، وتلك هي المفارقة الفلسطينية؛ أن يُعجب العالم بمن يتعاطفون معه، بدلا من الشفقة عليه! والحقيقة تكمن في أن الإعجاب بالمستضعفين هو في العمق إعجاب بقوة المستضعفين. يكفي أن نتذكر الصراع السياسي والإعلامي الذي دار مع بداية الحرب، والذي ظل ينطلق من السؤال عن شرعية المقاومة: هل يحق للفلسطيني الدفاع عن نفسه، أم ينبغي عليه أن يموت ويحيا كضحيةٍ طيبة مقلمة الأظافر؟ لكن أحدا لم يتوقع أن يتحول الرأي العالمي (الغربي) من الشك في شرعية المقاومة إلى فتنة المقاومة التي اجتاحت أعتى حصون الأكاديميا الغربية، لتخلُب ألباب طلبة الجامعات الأمريكية الذين أربكوا بدورهم حسابات المؤسسة الأمنية، وفضحوا وحشيتها الكامنة خلف قناع الديمقراطية. وهذا الأثر العالمي هو ما يتوج غزة مدينةً عالمية.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني