أنساغ.. لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً لأجل إنسانيَّته
(1)
أقرأ التاريخ، فأصاب بالعته
أستنطق الجغرافيا، فتنتابني الجمرة
ثم أموت بين الماء والخمرة.
(2)
ثمَّة عبارة يعرفها ويرددها الجميع بحيث إنها ذهبت مثلاً وقولاً مأثورًا ما دام التاريخ نفسه لم يكذِّب لا مبتدأها ولا خبرها. تلكم العبارة هي: "التاريخ يكتبه المنتصرون".
ذلك صحيح للغاية (وقد كنا قرأنا أشياء عجيبة غريبة على مقاعد الدراسة مما قرأنا عنه أشياء أعجب وأغرب بعد سنوات من ذلك). لكني اعتقدت دوماً أن هناك ما ينقص تلك الجملة ويجعلها غير كاملة في ميزان المآلات، والمصائر، والتساقطات، والخيانات، والاندحارات؛ بل وحتى في الاحتمالات.
وهأنذا أقترح التالي من مَغَبَّة الإكمال: التاريخ يكتبه المنتصرون، ولا يقرأه المهزومون.
(3)
عندما تصل المعركة إلى ضرورة القتال الانتحاري في نهايتها بـ "الخيار صفر" فإن "النصر" و"الهزيمة" ليسا أكثر من مسألة لغويّة فحسب: تمرين هرمنوطيقيٌّ بليد فحسب.
أما أنت فعليك ان تذهب إلى نهايات المعركة بكل ما أنت مُدَجَّجٌ به أخلاقيَّاً وإنسانيَّاً (ودَع بقية أنواع الأسلحة الفتَّاكة لأعدائك).
لستَ مثاليَّاً كي تدرك المسافة بين المبتدأ والخبر (ولا عليك من النحو، والإعراب، وفقه اللغة ما دامت كل المؤشرات الموضوعية والمعطيات العمليَّاتية في الميدان تؤشر الى أن الاحتمال الممكن الوحيد هو هزيمتك).
في "الخيار صفر" ليس هناك سوى القتال حتى النهاية الانتحاريّة. وحتى بحدث "الانتصار" عليك (رسميَّاً عبر "الإذاعات" المعنيَّ، ووفقاً لألسن والعائلة) فحسبك أنك الرماد.
لا أحد يستطيع أن يكون رماداً كما تفعل.
(4)
التواضع رذيلةٌ أمام من لا يتوافر على التأهل الأخلاقي لتقييمك من الأساس، ولكنه يفعل ذلك.
التواضع أسوأ ابتسامات الشَّلل، والقبول الأكثر نذالة للانتهاك.
(5)
آه يا أنت، يا أنت يا الهضاب، والسُّفوح، وتشقُّقات الغيوم، وأعشاش المدى، وآخر شهقات الحنين.
لكن لا داعي لأن تخافي أو أخاف من أنك لم تعودي الرئة.
(6)
أقف حازماً جازماً (ومشدوهاً أيضاً) ضد هذا الكلام المقارناتيّ والتَّفضيلياتي العجيب الغريب الأسوأ من سريان النار في التفكير حول "أن هذا زمن الرواية"، أو "ليس هذا زمن الشِّعر".
أعتقد أن الرواية ستمعن أكثر في تقدمها، وازدهارها، بل وتعقيدها، وتمَشْكُلاتها، وانمساخها على نفسها في نفسها، وذلك طالما استمر البشر في سرد الحقائق، وأنصاف الحقائق، والتمنيّات، والتَّخيلات، والأوهام، والترتيب المتأخر أو المبكر أو السَّليم للأشياء، والأحلام، وممارسة الأكاذيب التعويضيَّة الباهرة على بعضهم البعض.
أما الشِّعر فقد تعفف عن "المنافسة" منذ بدء الخليقة (وهو، أصلاً، في وارد الطرد والنكران منذ أفلاطون وحتى السماء السابعة). للشعر معادلاته الصعبة والمختلفة تماماً عن أي جنس أدبي آخر ("الشِّعر هو ذلك الذي لا يمكن أن يقال بطريقة أخرى"، أدونيس).
الشِّعر سينتهي فقط حين تكف آخر رئة لآخر إنسان عن النظر إلى آخر نجمة في آخر سماء متأوِّهة: "آه". الشعر سينتهي حين تكف الأرض عن التوجع، والألم، والبحث عن كلمات لا توجد في الذاكرة والمعاجم.
وأخال أن ذلك لن يحدث في القريب العاجل.
(7)
يقول: "سأموت الآن".
أردُّ عليه: "وما شأننا نحن في ذلك"؟
(8)
يا رفيقي وصديقي الشهيد: أشرقت الشمس اليوم أيضاً من قبرك المجهول وكانت الأشجار، والظلال، والمواقد حتى كادت الأرض أن تكاد.
(9)
هو شخص لا ينام (تقريباً)، وفي جعبته نظرية شبه متكاملة حول أن الناس ينبغي أن يكونوا مستيقظين طوال الليل، وأن يناموا طوال النهار، وعلى المدينة والنواميس أن تتصرف وفقاً لذلك.
لكن تصل إليه تفَّاحة في صباح كل يوم.
ليس في حاجة إلى المزيد من الحب والخطايا، بل إلى قليل من إعادة هندسة العالم والوجود (والموت أيضاً، بكل تأكيد).
(10)
قبل سنوات توفي شخص أعزُّه وأحترمه كثيراً (على الرغم من أن علاقتنا الشخصية المباشرة كانت أقل من وصفها بأنها على ما يرام) وذلك بعد معاناة قصيرة ومباغتة مع مرض عضال انقضَّ عليه واختطفه بِليل.
حين باغتني خبر الرحيل الصاعق عبر مكالمة هاتفيَّة هرعت فوراً إلى المستشفى من أجل تقديم التعزية الفوريَّة لأقاربه، فكنت من أوائل من وُجِدوا في ذلك المشهد الحزين كي نتسلم الجثمان من الغرفة المبرَّدة لحفظ الجثث، والذهاب بالذكريات إلى مقبرة القرية، وكنت مهموماً، في تلك الساعة المتأخرة من الليل بهذه الحقيقة المرعبة: لن أراه أبداً.
صلينا عليه، وأخذناه إلى المقبرة. أُنزل الجثمان إلى اللحد أمامي، وأحسست أن قلبي هو القماش الأبيض الذي يتدثر به جسده. كنت واقفاً على حافة القبر بالضبط حين بدأوا في إهالة التراب بطريقة مسعورة وحماسيَّة تقريباً، وكنت أعاني ما يشبه الشلل الذهني بسبب إخفاقي الشخصي القديم في فهم الموت (لا بد من الانتظار لأيام، أو أسابيع، أو سنوات، أو إلى الأبد كي يهضم جهازي النفسي والعاطفي ما حدث ويتفاعل معه، أو أن ذاك الهضم).
أمام ذلك المشهد الرهيب كلِّه لم تقو يداي على التراب وإهالته على الميت، واكتفيت بالنظر إلى الهيولى وهي تشكِّل الكون حول الحفرة وقد كلَّلها الغبار في الهواء قبل أن أكاد أهوي إلى القبر بضربة من الخلف على كتفي الأيمن ممزوجة باستنكارٍ قادم من القيامة نفسها: "ما تبغى يبدِّك أجر"؟ ("ألا تريد أن تحظى بنصيب من الأجر")؟
تفكرت لحظة في الرعب والسؤال الصاعق كي أدرك أن من كاد يطيح بي إلى القبر (حرفيَّاً) كان يقصد أني توانيت عن الحصول من نصيبي من أجر دفن الميت، فأنا لم أشارك في إهالة التراب على الجثمان بعد أن أدخلوه إلى اللحد وتيقنوا من أن الهواء لن يدخل إليه أبداً برص الحصى.
يا الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً لأجل إنسانيَّته، احتراماً لحزنه وخوف يديه من التراب، بل لا بد أن يكون ذلك طمعاً في الأجر والثواب.
يا الله، لم نتمكن من تعلِّم مدى الفجيعة من الغراب.
ثم انسحبتُ من المشهد كلِّه (لغاية الآن، حيث أكتب هذه السطور).