أنساغ/ عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «3 من 9»
في نهاية الحفلة يغني داركي القصيدة الغنائيّة الإيرلنديّة الريفيّة «فتاة أوغريم» بينما غريتا وغابرييل يهمّان بمغادرة البيت، فتشعل كلمات الأغنية «تجلّيا» أو «بوحا» (epiphany) مباغتا لدى غريتا. كنت قد ذكرت سابقا شيئا عن المعنى المسيحي لهذا المفهوم، وعليّ الآن إضافة أن الجذر الإيتيمولجي للكلمة/ المفهوم يعود إلى الإغريقيّة في مفردة «epiphainein» التي تعني «البوح»، وخاصة بشيء كان مخبأ أو مخفيّا في السابق ربما حتى عن الشخص الذي يبوح، أو يحدث له البوح، نفسه؛ وبذلك فإنه لا إرادي ومفاجئ في الغالب. وفي سياق علْمنته للّغة الثّيولوجيّة في الاعتقاد المسيحي، فإن «التّجلي» لدى جويس يصبح مفهوما فكريّا وجماليّا يشير إلى «تحول روحيّ مفاجئ، إمّا في سوقيّة الكلام أو الحركة الجسديّة أو في عبارة بارزة «في الذّاكرة نفسها»... وعلى الأديب أن يسجّل تلك التجليّات بعناية فائقة، وذلك بالنّظر إلى أنها الّلحظات الأكثر رقة وسرعة في الزّوال» (10). بكلمات أخرى، هو «تجلٍّ روحي... للحقيقة الفعليّة لذات المرء» (11). سأقول، إذًا، إنه بالرغم من عدم الوضوح الكافي في البداية لمدى التّأثير العاطفي المحدّد لتلك القصيدة الغنائيّة الرّيفيّة -- «فتاة أوغريم»-- والذّكريات التي تحييها لدى غريتا، إلا أن نغمة السّرد وتطوّرها يسجّلان تحوّلا تدرّجيّا جليّا بعد ذلك. وبينما يستقل غابرييل وغريتا العربة في طريق العودة إلى فندق غرشام حيث ينزلان فإن رغبة غابرييل الأيروسيّة المتحرّقة في غريتا تصبح واضحة بما فيه الكفاية، لكن غريتا، وقد بدت مشغولة الذّهن ومسكونة على نحو جليّ بشأن آخر، تردّ على رغبة زوجها بفتور أخرس من مسافة باردة وصمّاء.
في غرفة الفندق يكتشف غابرييل غرام زوجته المبكّر بمايكل فيوري، وهو صبيّ كان يعمل في مصنع لإنتاج الغاز، والذي «مات وهو في السّابعة عشر لا أكثر. «أليس مريعا أن يموت في هذا العمر الصّغير»؟ «أعتقد أنه مات لأجلي»، هكذا تقول غريتا بحزن استبصاريّ، مفاجئ وعميق (12). هذا البوح الصّاعق يجبر غابرييل على تأمّل عمق علاقة الصّبي الميّت بزوجته في مقابل سطحيّة وبرود علاقته هو بها. وهذا البوح يوفّر أيضا استبصارا لعمق العواطف الإنسانيّة الأصيلة واستحالة مقاومتها على الرغم من مرور الزمن. يمضي غابرييل، بعد هذا، في مساءلة ذاته كما يبوح بذلك الخطاب الحر غير المباشر (free indirect discourse) الأنيق الذي يستخدمه جويس في المونولوغ الداخلي. ينتهي العمل -- أدبا وسينما -- بنوم غريتا بينما يخطو غابرييل نحو نافذة الغرفة ليشاهد الثّلج حيث «تتلاشى روحه وهو ينصت إلى الثّلج يتساقط متمهلا عبر الكون، كما عند حلول السّاعة الأخيرة، لكل الأحياء والأموات» (13).
«أموات» جويس: مقاربات في سياق الاقتباس السّينمائي
في مظهرها الحداثي تتجلّى كامل تجربة جويس الأدبيّة بوصفها غير غريبة عن الاقتباس بالمعنى الأعمق للمفهوم والفكرة. فلنتأمل، مثلا، تحفته الكبرى «عوليس» التي اعتبرها النّقاد المثال الأكمل لحركة الحداثة برمّتها؛ إذ في وسع المرء، في الحقيقة، أن ينظر إلى «أرْلنْدته» (نسبة إلى إيرلندا) لتلك الشخصيّة باعتباره ضربا من ضروب الاقتباس؛ لأنه يصار هنا إلى نقل ذلك العمل الضخم بحذق وأناة بلغا سبع سنوات كاملة جغرافيّا، وثقافيّا، ولغويّا من اليونان القديمة إلى إيرلندا المعاصرة، وإلى تحويله نوعيّا من جنس الملحمة (عوليس، في الأصل، هي الشخصيّة الرّئيسة في «الأوديسة» لهوميروس Homer) إلى جنس الرّواية، واختزاله زمنيّا من عشر سنوات كاملة تدور على مدارها أحداث تاريخيّة كبرى في الأصل الإغريقي إلى وقائع صغيرة تجري في غضون يوم عاديّ واحد فقط هو 16 يونيو 1904.
وعلاوة على ذلك فإن جوهر السّينما، من حيث هي أداة بصريّة في المقام الأول، يشترك في علاقة قربى وطيدة مع رؤية جويس الأدبيّة. فلنتأمل، على سبيل المثال، روايته «بورتريه الفنّان في شبابه» (14)؛ إذ أن العنوان يشي باهتمام بالبصرانيّة (نسبة إلى البصر) في التعبير والوصف الأدبيّين. ومع الاحتفاظ بالمغزى المجازي بالتأكيد، فإن العنوان يدعو القارئ إلى تركيب «بورتريه» لستيفن ددْلسْ من أجل «صوْرنة» (نسبة إلى الصّورة) شخصه، وحياته، وأفكاره بما لا يتوافر في أدوات أخرى. وبكلمات أخرى، فإن العنوان، من خلال توظيفه للمجاز البصري، يقترح علينا بذل كل ما في وسعنا من أجل «مشاهدة» ددْلسْ عوضا عن «القراءة عنه». ولذلك فإنه ليس من المثير للعجب أن النّقاد يجمعون على اهتمام جويس الوسواسي بالتفاصيل وتأثيرها المباشر في حبكاته، وهذه خاصية توازي وظائف العدسات، وزوايا الإضاءة، وإمكانات الكاميرا.
وعلى نحو مماثل، فإنه مما لا يدعو إلى الاستغراب أن المشتغلين الراديكاليّين الأوائل بالسّينما وجدوا إلهاما ومصدرا لتجريبيّاتهم الفيلميّة المبكّرة في أعمال جويس؛ فعلى سبيل المثال يقدّم الفنّان الفرنسي الطّليعي مارسيل دوشا Marcel Duchamp -- الذي يعرف بأنه رائد الفن المفاهيمي -- في عمله الذي يحمل العنوان المفارق «سينما أنيميّة» (1926) فيلما «نرى فيه لوالب تتحرّك تناوبيّا ببطء موحية بموتيفات جنسيّة، متداخلة عبر القطع البينيّ «intercutting» المصاحب لتوريات معقّدة وتقريبا لا يمكن تفسيرها، وهذا يصادي «من الصدى»... عمل جويس «يقظة فنغنز» «أو «جنازة فنغنز» في ترجمة عربية أخرى ممكنة» (15).
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقتين السابقتين:
(10): نفس المصدر السابق، xxxiv.
(11): A. Nicholas Fargnoli and Michael Patrick Gillespie, James Joyce A to Z: An Encyclopedic Guide to His Life and Work (London: Bloomsbury Publications, 1995), 66.
(12): جيمس جويس، «الأموات»، ت عبدالمنعم المحجوب، 75، 76. يعتمد الفيلم نفس تينك العبارتين في أصلهما.
(13): نفس المصدر السابق، 81. يورد الفيلم هذه العبارة بتصرّف مونولوغيّ.
(14): في الاستهلال الاقتباسي لهذه الورقة أوردت عبارة من هذا العمل بالترجمة العربيّة التي أجراها ماهر البطوطي بعنوان «صورة الفنّان في شبابه». أورد عنوان العمل محوّراً قليلا هنا إلى «بورتريه الفنّان في شبابه» وذلك من حيث إن «البورتريه» شيء بينما «الصّورة» شيء آخر، وكذلك نظراً لأن مفردة «بورتريه» صارت شائعة في العربيّة الحديثة في الوقت الذي أجرى فيه البطوطي ترجمته في العام 1986.
(15): A. L. Rees, Cinema and the Avant-Garde, in The Oxford History of World Cinema, ed., Geoffrey Nowell-Smith (New York: Oxford University Press, 1996), 98-9.