أنساغ: دقيقة واحدة من التلفاز
(1)
على عكس ما اقتنعتَ به ومارستَه طوال السنين الفائتة صار لا بد من إعادة ترتيب الأولويات: الكتابة أضحت أهم وأكثر إلحاحا من القراءة (على اعتبار أنك لم تجد في كل ما قرأتَ صدى لما تصبو إلى كتابته).
ولعلَّه آن أوان الإنصات إلى قناعة هنري مِلَر: «على المرء أن يقرأ أقل فأقل، وليس أكثر فأكثر»، وذلك لأني «قرأت دون أدنى شك مائة كتاب أكثر مما ينبغي أن أقرأ لصالحي» (ومن المفارِق حقَّاً أن تأتي هذه الجملة في مقدمة كتابه «الكتب في حياتي» لا سواه)!
(2)
لم تكن الأطلال تريد البقاء في تلك الدرجة الحرجة من الوجود. ما حدث هو أن الشِّعر ورَّطها في ما لا طاقة لها به.
(3)
الأرق: الابتعاد عن يوم الحشر والقيامة (وكل ما يندرج في سياق ذلك).
(4)
لا أستطيع أن أحترم هذا الشخص ليس لأنه لا يستحق الاحترام، بل لأنه يتوقعه ويبغيه -- أي الاحترام -- أكثر مما ينبغي.
(5)
الموت ليس أكثر من مجرد الافتقار لشريك مُضْجَر في النُّزهة الأخيرة، وغياب اللدغة الأولى في السَّديم.
الموت في حِلٍّ من ذلك، فهو التَّبَجُّح في الضَّباب.
الموت: لا نوم ولا يقظة، لا حل ولا ترحال، بل استرسال.
(6)
الكلام العاديُّ حين يقوله الكبار لا يعود شيئا عاديَّا، بل حكمة ومأثورا.
لكن قبل قول ذلك فإن كل من نعجب بهم من «الكبار» -- فلاسفة، أدباء، ثوَّار، إلخ -- يقولون أشياء «معقَّدة» و«غير عاديَّة»؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن اعتبار المقدمة والفصل الأول من «الاستشراق» لـإدوَارد سعيد مادة «مهضومة» بيسر (وقد جنت الترجمات العربية لهذا الكتاب أيما جناية عليه)، لكن ما إن يبدأ الفصل الثاني حتى تشعر أنك وقعت في فخ ثقافة سعيد الموسوعيَّة وشبكة استراتيجيَّاته المتداخلة.
في الشِّعر أيضاً يستدعي سركون بولص ميثولوجيات حضارة ما بين النهرين، وإحالات خفيَّة إلى الشِّعر الأمريكي، ويكون عليك أن تدقق في كلمة من النص.
لكن بسبب ذلك الحذق (إدوَارد سعيد وسركون بولص بوصفهما مثالين) يصير الكلام «العادي» و«السَّهل» -- بل وربما حتى «الساذج» لدرجة أن أي تلميذ في الابتدائية يمكن أن يكتب مثله -- شعارات ومقولات كبرى.
في بالي مثالين:
1. «إن الحرب شيء سيئ» (إدوَارد سعيد).
2. «أيها الماضي/ ما الذي فعلت بحياتي»؟ (سركون بولص).
(7)
الكتابة خمسة نكالات باهظة ومآلات يستحيل التمييز بينها في البوتقة: التخلص من الذاكرة، إعادة إنتاج الذاكرة، تعذيب الذاكرة، تغييب الذاكرة، وتحرير الذاكرة.
(8)
تتبرأ الفكرة من نفسها في الفردوس قبل أن تهاجر إلى منفى آخر.
(9)
الكهرباء: نعرفها جيدا من قبل (وإلَّا قولوا لي، من فضلكم، كيف تمكَّن هذا العدد الكبير من البشر من الوفاة بسبب الحب)؟
(10)
فَقَد مفتاحه وظل يبحث عنه إلى أن مات. في جنازته وجدوا أن المفتاح في جيب أحد المُشيِّعين.
(11)
أيها الزعيم الذي يتخصَّر بمسَّدسه التاريخ في مناسبة افتتاح الجغرافيا: أنا خائف جداً منك، ومرعوب حتى من احتمال سقوط القمر على العشب.
(12)
ثلاثة إيقاظات صامتة لصباح صاخب وعنيف للغاية:
1. في الطَّبيعة ليس هناك شيء اسمه «صمت مطلق». وقد لا ينتبه بعضنا إلى أن المشاهِد الصامتة في السينما ليست «صامتة» تماماً، في الحقيقة؛ فذلك «الصمت» له «صوت»، لكنه «صوت/صمت» خافت جداً وبالكاد يستشعره ذوو الحسَّاسية المرهفة، وبحيث إن ذلك «الصمت/ الصوت» يمكن أن يكون (بل يُحَبَّذُ) أن يكون اختلافه ملموساً من مشهد «صامت» إلى آخر. في اصطلاحات السينما يطلقون على «صوت الصمت» مصطلح «نغمة الغرفة» (room tone).
2. « أكاد هنا أن أسمع صوت الصمت» (قاسم حدّاد، من رسالة شخصية في خضم شتاء ألماني).
3. «السينما الناطقة ابتكرت الصمت» (روبير بريسون، «ملاحظات في السينماتوغرافيا»).
(13)
مراجعة الذَّات في غير قليل من الأحيان: أسوأ استخفاف بالذَّات وانتهاك لحقِّها في الصواب والخطأ.
(14)
لا يجد المرء أدنى صعوبة في فهم أن الكتابة مسألة عصيَّة، وصعبة، وتعذيبيَّة، بل وانتحاريَّة، وهي من الأشياء التي لا يتمناها المرء، في حالة نزاهته القصوى، حتى لألدِّ أعدائه (ببعض التنويع على مقولة تُنسب إلى «الشِّيبه العود» كارل ماركس: «إني لا أتمنى الجوع حتى لألدِّ أعدائي»).
ولا يشعر المرء بأدنى غضاضة حين يصل البعض ممن يحترمون أنفسهم، ويحترمون الكتابة أيضاً، إلى قرار التوقف عن الكتابة، بعد إبلاء ما أمكن من البلاء الحسن (أو غير الحسن)، لأنهم يشعرون أن لا طاقة لهم ببقية المشوار، وأن الموت بأسباب غير الكتابة خير من الوفاة لأجلها وبها.
لكن هناك نفر ثالث. ومن هؤلاء من بالكاد أودع في عهدة التاريخ كتابا واحداً هزيلاً لولا نِعَم النفح وهِبات النَّفخ (لاعتبارات تاريخيَّة، وشخصيَّة، وسياسيَّة، ومرحليَّة). ثم حين غادرت المياه الأرض وغار النَّفح والنَّفخ، وصار من الواجب الاعتراف بضعف الموهبة، ومواجهة التاريخ، والتَّفرغ لـ«البزنس»، واستدراك ما اقترفته الضمائر والنفوس، إذا به لا يستقيل من الكتابة فحسب (وفي أية حال، ومرة أخرى، الاستقالة من الكتابة حق و/ أو واجب ضروريٌّ مهنيٌّ وأخلاقي حسب الظروف والقناعات)، بل إنه يدبِّج ما يفوق عصماء الخُطَب بقوله إن وحشيَّة العالم، وسيئاته، وشروره (إلخ مما يتورع عن قوله شخص مثل أنطونين آرتو، مثلاً) قد جعلته يكتشف لا جدوى الكتابة في عالم بشع لا يهتم بالكتابة، ولا بالإبداع. إنه يكتب عن التَّوقف عن الكتابة بوصفه الشخصيَّة التراجيديَّة النبيلة، ولا أحد يجشِّم نفسه عناء معرفة الباقي من ادعاءات.
اللهم ساعد من تبقت لديهم موهبة الحياء والخجل، والعفَّة، و...الكتابة.
(15)
دقيقة واحدة من التلفاز تغلق العالم إلى الأبد.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني