أنساغ .. المطار الجديد (7 ق ق ج)

12 يونيو 2022
12 يونيو 2022

1. ابتسامات الأميرة

الأميرة الجميلة برفقة زوجها الشاب الوسيم الذي أصيب بجلطة دماغية أصابته بالشلل والصمت كانت تدفع مقعده ذي العجلات في أروقة مصحة إعادة التأهيل، وكنت أدفع أمي شبه المُقعدة على مقعدها ذي العجلات في نفس الممرات حيث عاملات التنظيف يصادف وجودهن تصادف وجود الأميرة، ووجود أمي، ووجودي، كنا نبتسم لبعضنا البعض عندما نتحاذى، وأحيانًا يستدير الرأس إلى الخلف في الابتسامة.

ماتت أمي، ومات زوج الأميرة الجميلة، وعاملات التنظيف في المصحة لا يزلن هناك.

2. نظرات

تضع ذقنها على قبضة كفّها وأصابعها مضمومة إلى بعضها البعض قبل أن يمتد ذراعها الأيسر قليلاً وقد انبثقت منه الوسطى والسبابة، بينما تظل الأصابع الأخرى مقبوضة إلى الكف. تُخرج خاتمًا من بنصرها الأيمن، وتقرّبه من فمها وتنفخ فيه كمن ينظِّفه من الغبار قبل أن تعيده إلى مكانه. تدير رأسها يُمنةً ويُسرةً بحركة هي بين البطء، والخفَّة، والنفور، والشَّبق. ومع كل حركة ترتعش غرتها ويتراقص شعر رأسها الأسود المعقود من الخلف بطريقة "ذيل الجواد". تُميل رأسها إلى الأمام قليلاً، وتعيده إلى الوضع الطبيعي بعض الشيء، ثم تقذفه إلى الخلف بقوَّة. ترفع كفها اليمنى وأصابعها الخمسة ممدودة إلى الأعلى قليلاً، ثم تضرب بها على صدرها. تمدُّ ذراعها الأيمن وتشير بسبَّابتها. تحكُّ داخل أذنها اليسرى بخنصر يدها اليمنى بصورة دائريَّة، ثم تُميل رأسها وتهزُّه كمن يحاول إخراج الماء من الأذن. تضع رأسها على كتفها الأيمن لبعض الوقت، ثم تضعه على كتفها الأيسر لبعض من الوقت. تغمض عينيها لحوالي ست أو سبع ثوانٍ، ثم تمرر أُنمل ووسطى كفها الأيمن على جفونها لحوالي سبع أو ثمان ثوانٍ.

ثم أُدِيرَ محرِّك السيارة، وانصرفت في الليل.

3. مدينة

استيقظ عند الظهيرة مصابًا بصداع ومغص حادَّين، وظمأ شديد، وألم في الحلقوم، ووجع في الأطراف والصدر، ورغبة في التقيؤ، والتبرز، والتبول. عبَّ من دورق الماء الموضوع على المنضدة المُذَهَّبة، ثم استوى على حافة سريره وهو جالس ويداه مبسوطتان على فخذيه. تثاءب قليلاً ثم نهض ومشى صوب النافذة وهو يترنح بحيث إنه سقط أرضًا حين اصطدمت إحدى قدميه بقنينة نبيذ مليئة. تقيأ، وتبوَّل، وتبرَّز قبل أن ينهض ويحبو على أربع نحو الجدار الذي أمسك به فاستوى، وأزاح ستارة غرفة نومه، فرأى الشوارع والطرقات المجاورة للقصر وهي مطفأة الأنوار تحت الشمس. صرخ وعاد القهقرى إلى سريره وهو يزحف على بطنه، ورفع سماعة الهاتف.

أضيئت كافة شوارع، وطرق، وأزقة، وممرات، وأنفاق، وجسور عبور المشاة في المدينة، وصدرت الأوامر باسم حاكم المدينة معلنةً حظر التجول.

4. ليمون

أخرج الوجبة من الثلاجة، ووضعها في "المايكرويف".

فكَّر: "أريد ليمونة لأعصرها على العشاء الساخن".

فتح الثلاجة وأخرج كل أشجار الليمون التي كان يسقيها في صباه في مزرعة والده في القرية.

فكَّر: "أريد سكِّينة صغيرة كي أقطع بها الليمونة إلى نصفين".

لكنه لم يعثر في المطبخ على سكين صغيرة، بل إن ما وجده هو سكين كبيرة أشبه ما تكون بساطور الجزَّار.

ثم انفلقت الأرض إلى نصفين.

5. ابن الوالي

(1)

لم أكنّ لابن الوالي ضغينة، سوى أني كنت أتندر أحيانًا مثل غيري في المدرسة على لَكِنَتِه الغريبة فقد جاء من منطقة أخرى في البلاد حين عُيِّن والده واليًا لدينا. أما كتلتا الصمغ المتدليتان من أذنيه فقد رجّحت أنهما سبب عدم قدرته على سماع وشوشاتي وأنا أُغشّشه في الامتحانات، إذ كان يجلس بقربي على المقعد الخشبي المستطيل الثلاثي في المدرسة الابتدائية التي أظن أن اسمها كان شيئًا من قبيل "مدرسة يعرب بن بلعرب الابتدائية للبنين"، والحقيقة أني لم أشارك الآخرين في التندُّر على ابن الوالي. لكني اعترف أني كنت أغار من دشاديشه البيضاء النظيفة في كل يوم دراسي، كما كنت أحسده على دراجته الهوائية الخضراء الجديدة من نوع "Falcon" على الرغم من أنه سمح لي بقيادتها مرتين، ومن دون تقاضي أجرة الخمس وعشرين بيسة التي كان يأخذها ممن يسمح له بقيادتها لمسافة قصيرة في مرمى عينيه. عدا ذلك لم يكن بيني وبين ابن الوالي أي شيء.

(2)

اتصلوا بي قبل قليل وقالوا إن عليَّ الحضور غدًا في العاشرة صباحًا لحضور الجلسة الجديدة من التحقيق، قلت لهم: لكن غدًا يوم عطلة. قالوا إن ابن الوالي يمارس مهامه حتى في العطلات.

6. ليس كما يفعل الناس

(1)

عند تناول الغداء كان الرز الأبيض المخلوط بالمرق يتسلل من بين أصابعه، وكان الأب ينهره: "أنت لا تعرف أن تأكل كما يفعل الناس"، فكان ينسحب من الوجبة، وحين تنفجر دعابة غير مقصودة في السهرة العائلية كان يضحك، فكان الأب ينهره: "أنت لا تعرف أن تضحك كما يفعل الناس" فتوقف عن الضحك. وكان الولد يمشي برفقة الأب فنهره هذا: "أنت لا تعرف أن تمشي كما يفعل الناس". ولأنه لا يعرف أن يفعل أي شيء كما يفعل الناس فقد ابتدأ في اقتفاء آثار خطوات كبار السن في القرية، فيقلدهم وهو يمشي وراءهم من دون أن ينتبهوا لذلك، وكان يضع قدميه الصغيرتين في الحُفَر الضئيلة التي تركتها أقدامهم: هُب، هُب، هُب، 1، 2، 3، هُب، هُب، هُب.

(2)

صار الآن يمشي، ويركض، لكن ليس كما يفعل الناس.

7. المطار الجديد

في هذه المرة لم أتمكن من الحصول على مقعد النافذة، وكان نصيبي واحد من المقاعد في منتصف الطائرة عند الممر، فضاعت عليَّ فرصة مشاهدة الأرض وهي تبتعد عند الإقلاع وتقترب عند الهبوط.

أعلن الطيَّار أننا بدأنا الهبوط التدريجي نحو المطار، وأمرنا بالبقاء في مقاعدنا وربط الأحزمة، وكنت أشعر بالطائرة وهي تهبط بالتدرج. لكنها، بعد ذلك، ارتفعت فجأة بسرعة وبدا لي أنها تطير بحركة دائرية حول نفسها. بدأ الركاب ينظرون إلى بعضهم البعض متسائلين، ثم جاء الصوت: "سيداتي وسادتي، معكم عبدالله حبيب قبطان الطائرة، إننا نتعرض لمشكلة ميكانيكية بسيطة سيتم التغلب عليها خلال وقت قصير ثم سنهبط بأمان، أرجو البقاء في مقاعدكم والاستمرار في ربط الأحزمة".

ساد الهرج والمرج بين الركاب، وتحولت نظرات التساؤل إلى نظرات خوف وقلق، بينما استمرت الطائرة في طيرانها الدائري، ثم جاء الصوت: "سيداتي وسادتي معكم القبطان عبدالله حبيب مرة أخرى، يؤسفني للغاية إبلاغكم أننا لن نتمكن من الهبوط، فقد سرقوا مدرجات المطار الجديد".