أن تقرأ محمود درويش في هذه الأيام

10 أغسطس 2024
10 أغسطس 2024

كتبتُ هنا في مارس الماضي عن عاموس عوز تحت عنوان «أن تقرأ عاموس عوز في هذه الأيام». واليوم أجدني أنسخ العنوان نفسه لأكتب عن محمود درويش في ذكرى رحيله (9 أغسطس 2008). ولعلي أبرر ذلك بما يمثّله عوْز ودرويش من تناظر لا يخفى بين لغتين متحاربتين؛ عِبريةٍ تمحو الأسماء العربية عن شوارع القدس، وعربيةٍ ترمم ذاكرة المكان من خارجه، وهو ما يوحي بأن أحدهما كان معادلا أدبيا للآخر في مُعسكره اللغوي والسياسي، طبعا مع حفظ الفوارق الجوهرية الكبرى بين روائيّ إسرائيلي عاش ليكتب حكايته المنتصرة بالتفوق العسكري، وشاعرٍ فلسطيني مهزوم كرَّس حياته للبحث في لسان العرب والتاريخ والميثولوجيا والأرْكيولوجيا عن الغائب من حكاية طروادة.

العودةُ لقراءة محمود درويش في أيام كهذه هي دعوة لإشراكهِ وتوريطه معنا في هذا الهزيع المتأخر من الدهر. نريده أن يتكلم، أن يُكلمنا أكثر، فحتى بعد رحيله بـ16 عاما ما زلنا ننتظر منه الكثير ونطالبه بالمزيد. نستعين بتجليات شِعره على فهم غموض عواطفنا وواقعنا، تماما كما ترشدنا تجليات الواقع والعواطف على فك كناية غامضة أو مجاز ما ملتبس في سطر من قصيدته. من منا سيزور لغته الآن دون أن يقع في مغبة السؤال الافتراضي المتشعِّب: ماذا لو كان الشاعر بيننا؟ ماذا سيقول لنا شعرُه في زمن الكارثة؟ وهل بوسع قصيدته الشاملة الطويلة أن تركض معنا أكثر لمواكبة هذا الألم والذهول أمام الإبادة؟ هل سيكتب افتتاحية العدد القادم من «الكرمل» التي توقف صدورها بعد غيابه؟ لمن سينحاز؟ وكيف سيعلن مواقفه السياسية بعد أن انتحرت فلسطين العرفاتية التي شكَّلت الفصل الأطول من حياته؟ وكيف يتفاعل السياسي والغنائي فيه مع موازين القوى التي تتحالف في المنطقة اليوم ضد شعبه؟ غير أنه لن يقول أكثر مما قال.

كلنا محاصرون الآن وندقُّ عليه الباب. أنا محاصرٌ وأصدقائي محاصرون في هذه الحرية الكبيرة الفقيرة للحِيلة. وكلنا نبحث عن شاعر المهمات الصعبة في هذا التوقيت من العجز السياسي والإبداعي:

«تكلَّم لنصعَدَ أعلى

وأعلى، على سلَّم البئر يا صاحبي، أين أنت؟

تقدَّم لأحملَ عنكَ الكلام»!

منذ السابع من أكتوبر الماضي وأنا أتابع على شاشة الأخبار يوميات الحرب البعيدة عن مكانٍ ناءٍ اسمه غزة. ولكسر الروتين الدموي أحرّك كل نهارٍ فاصلة القراءة صفحةً، صفحتين بين أوراق كتابه «ذاكرة للنسيان»: نص نثري مفتوح عن تقاطع الرغبات والذكريات والهواجس في لحظة واحدة، تدوينات شاعر محاصر داخل شقته في مدينة محاصرة ترجُمها الطائرات والبوارج والدبابات بالنار. يوثق هذا النص المكتوب إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 خبرة محمود درويش الحقيقية مع الحرب، حيث الحياة كالموت، مجرد مصادفة، مصادفة سعيدة، وهي التجربة التي زودته بالمصادر الضرورية للدخول في القصيدة الملحمية.

هو الشاعر الفاتح والمخلّص، النجم الوسيم، السياسي المناضل والمتحدث الرسمي الشعبي، صوت الذات في الجماعة، كاتب الأغاني التي يتبادلها العشاق قرب البحر... كل تلك المسؤوليات/ الامتيازات وأكثر هي التي رسمت علاقة محمود درويش بجمهوره، غائبا وحاضرا، وربما كانت تلك بحق «مأساة أن تكون محمود درويش» كما كتبت الشاعرة المصرية إيمان مرسال: «ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثّل كلمة «شاعر» في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعنى وتوقعا؛ لكن كلمة «شاعر» في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها تصيب من يحدق فيها بالعمى». مع أن جميع من عرفوه عن قرب يعرفون كيف كان محسودا على جماهيريته، حسدا يثير غيرة واستعداء الشعراء الألداء، ولكني لا أستبعد أن يكون ولعه بالمتنبي كفيلا بتغذيته ببعض العزاء النرجسي: «أني بما أنا شاكٍ منه محسودُ»!

ولأن «الفلسطينيين لا يرحمون شعراءَهم» كما قال ذات مرة؛ فقد كان هو بالذات أكثر الشعراء الفلسطينيين إخلاصا لهذه القسوة التي مرَّنته على تطوير المهمة وفقا لشروط فلسطينيته الصعبة، دون أن يُذعن لمتطلبات «الشعر الوطني»، متسائلا: «ما معنى أن يكون الفلسطيني شاعرا؟ وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينياً؟ الأول: أن يكون نتاجا لتاريخ، موجودا باللغة. والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصرا باللغة». تعلو نبرة هذا الرهان الكلي على اللغة، لإثبات الوجود أولا ولتأكيده ثانيا، كلما اشتدت وطأة الخسارة وصُودرت الأرض من تحت الأقدام ولم يعد للشاعر من مكانٍ يستوطنه سوى كلامه، وهذا ما طرَّزه ببلاغة جارحة في قصيدته «قافية من أجل المعلقات»:

«لا أرض فوق الأرض تحملني،

فيحملني كلامي

طائرا متفرعا مني...».