أن تعودي فلسطين
قرأتُ في الأيام الماضية كتاب «أن تعودي فلسطين» للكاتبة التشيلية من أصل فلسطيني «لينا مرواني. تكتب مرواني في هذا الكتاب عن رحلتها إلى فلسطين، وتسائل مفردة «العودة» تقف من على مسافة منها، تمكنها من فحص هذه الكلمة الهائلة، مسافة تجعل من هذه الكلمة أبعد ما يمكن عن الخرافة، فأسطرتها مع مرور الوقت تنبئُ بزوال موشك، لولا أن الدماء ما زالت تسيل والجرح ليس مفتوحا فحسب بل يُمعن المحتل في مده واسعا وعميقا بلا توقف.
مرواني تنتمي للجيل الثالث من الفلسطينيين الذين هاجروا لتشيلي، كان الجيل الأول من عائلتها قد تعرض لضغط كبير أيام الدولة العثمانية، فاعتبرت المسحيين وكلاء لدول أوربا وخونة، الأمر الذي جعل استمرارهم في الحياة هناك صعبا إن لم يكن مستحيلا. تتحدث مرواني عن المكان الذي نشأت فيه ويخالجنا الشعور بأنها تتحدث عن حي فلسطيني عربي في فلسطين، لا حي فلسطيني في تشيلي. يبدو هذا مبررًا أمام هجرة واسعة النطاق للعرب والفلسطينيين خصوصًا لأمريكا اللاتينية.
بحسب الباحث والمؤرخ د.عبد الواحد أكمير في دراسته «مظاهر الحضور العربي في أمريكا اللاتينية» فإن الأرجنتين وحدها التي تمتلك أرشيفا يوضح إحصائيات وصول أوائل المهاجرين العرب، وتجعل يوميات إدارة الهجرة الأرجنتينية من ١٨٧٢ بداية للهجرة العربية بشكل رسمي لكنها لن تأخذ الأهمية من الناحية العددية إلا مع بداية القرن العشرين عقب الحرب العالمية الأولى. وهكذا بلغ عدد العرب المهاجرين للأرجنتين وحدها بين عامي 1904 و1913 إلى 114217 نسمة.
هاجرت مرواني إلى أمريكا من تشيلي، هنالك إذن سؤال معقد عما تعنيه الهوية، ما الذي يعنيه وجودها كله؟ من هي في وسط كل هذا؟ لطالما أرادت أن تعرف امتداد اسم عائلتها «مرواني» وتتبع أثرهم في جالا الفلسطينية، وزيارة من بقي منهم هناك والتعرف عليهم. أطياف عمات وأبناء عمومة يحضرون كأسماء فحسب بالنسبة لها. تقرر مرواني إذن أن الوقت قد حان (للعودة) وتكتب لنا يومياتها منذ لحظة قرارها هذا مرورًا بكل ما يحدث لها أثناء السفر والحصول على الموافقة الأمنية، ووجودها في إحدى طائرات طيران «العال» الإسرائيلي، تعرف من صديقها اليهودي إسكندر هناك المتزوج من سيدة فلسطينية، أعلن لأجلها إسلامه الحيل التي ينبغي أن تلعبها لكي تتمكن من تجاوز كل التعقيدات الأمنية، إلا أن هذه التعقيدات تعكس لنا فزع دولة الاحتلال والمأزق الأبدي الذي تعيش فيه.
«أهمس له، لستُ أدري إذا كنت عدت. لست أدري إذا كان بوسعي فعل ذلك أبدًا. يرفع إسكندر كأسه، ينظر نحوي من خلال الزجاج بعينين مهودتين، وكأنه يرتل آية غير مفهومة يجيب، ببطء شديد معارضا برأسه لا تقولي أبدًا إنك لن تعودي، مرواني ستعودين. عودي قريبًا».
أتقمص أثناء قراءة مرواني بدوري، جسد الغريب المهجر، ذلك الذي يعيش على الحافة دومًا؛ لأنه ليس فلسطينيا تماما، لكنه فلسطيني بالكلية! إنه مهجر ومطرود ومنتهك بصفته فلسطينيا فحسب. يقول لي أحد أصدقائي الفلسطينيين: إنه كفلسطيني يعد نفسه العربي الأخير! أسأله كيف يكون ذلك؟ يقول لي: إن هذا ما يتم تعريفهم به من قبل دولة الاحتلال، إنه لا يقتل إلا بصفته عربيا ولأنه عربي حصرا. فلنتأمل المقاطع التي تصلنا من فلسطين المحتلة، الصهاينة يقولون طيلة الوقت: اقتلوا العرب! لا يقولوا اقتلوا الفلسطينيين! وينادون عليهم في كل مكان حتى على الحواجز «عربيم». ويشرح لي أن الهوية تتكون مع الاصطدام اليومي، وفي حين أننا بقية العرب نواجه تعقيدات هوياتية مختلفة، إذ يتم تعريفنا بالطائفة أو المنطقة أو الدين أو اللهجة الأمور في فلسطين أكثر تبسيطا فهم عرب فقط أو «عرابيم» فقط. أتخيل نفسي في جسد مرواني وهي تتأمل في الخريطة التي تحاول بها الوصول لإحدى العمات البعيدات داخل القدس! يصبح الأمر أكثر تعقيدا عند مرواني عندما يظن الإسرائليون أنها إسرائيلية ويبدأون الحديث معها بالعبرية، هذه اللحظة تصبح عنيفة للغاية، لحظة مواجهة تفجر كل شيء، وتبعث من الأعماق أكثر الأسئلة المروعة عن تعريف الإنسان لنفسه، عن تاريخه، عن كونه لم ينبثق من الفراغ بل هو امتداد لماض معقد يتم اليوم إخفاؤه وإزالته بعنف الاستعمار!
لم تعرف مرواني أنها ستعود مجددا بعدها ببضع سنوات هذه المرة مع حملة باحثين لمؤتمر يعقد هناك، التعقيدات نفسها بل تزيد، نعاني معها ومع زملائها الوقوف الطويل عبر الحواجز، والصدف السعيدة بتجاهل جنود الاحتلال لأمر قد يؤجل كل مشاريعهم أو حتى قد يتسبب بإبعادهم. وعندما تقرر مرواني عيادة عائلتها التي تعرفت عليها في الزيارة السابقة، تكتشف أن عمتها قد ماتت قبل أشهر بالسرطان وربما بالحسرة أيضا.
قبل سنتين أجريتُ حوارًا إذاعيًا رائعًا مع الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد، التي زارت مسقط بعد ذلك اللقاء، وأهدتني صدفة من بحر يافا، أعلقها في سيارتي منذ ذلك الحين، أحدقُ بعين مرواني نفسها في تلك الصدفة الحية/ الميتة، وأفكر في الذي تعنيه بالنسبة لي، وكيف أنها تلقي بي أنا أيضا في زوبعة الأسئلة العنيفة أيضا. فمن أنا؟ وكيف يحدث ما يحدث؟ ولماذا بحق الرب، عندما فازت السعودية على الأرجنتين في مونديال كأس العالم الأخير في قطر في أولى مبارياتها وزع الغزيون كنافتهم التي يسمونها «الكنافة العربية» تماما مثل ما يوزعونها في احتفالهم بأي انتصار صغير على الاحتلال؟ والآن، الآن أولئك أنفسهم الذين صنعوا الكنافة ووزعوها وفرحوا بها، هم أنفسهم جوعى ومشردون إن لم يكونوا قد قُتلوا من أكثر أنظمة الاستعمار وحشية، فهل نحن في حداد بدورنا؟