أكثر من مدن ملح
دعيتُ قبل عام تقريبا لتقديم حوار مع أستاذ الدراسات الثقافية البحريني د. نادر كاظم، حول الفرق بين الحداثة والتحديث وموقع دول الخليج العربي منهما التي قدمتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ممثلة بلجنة الفكر. سأل د.نادر في حديثه ذلك عن سر موقف الجيل الجديد من الشباب إزاء النفط. كان هذا السؤال كافيا لتنبيهي لسرديات بدت لي حتى وقت طويل حتمية، أشبه بمسلمات لا تقبل المساس بها. بل إن لا فضول يتملكني مثل غيري من جيلي بشأنها. ربما وأقول ربما لأننا وبسذاجة تلقينا سردية "الآخر" عنا كما لو أنها الحقيقة، وأنا هنا لا أكذبها ولا أنفي صحتها بل أقول أنها بحاجة للمراجعة، والتفكيك، وأننا أمام مشروع بحثي تجاهلناه طويلا وبما يكفي.
أما عما نظنه حول النفط، فهي نظرة قاتمة للأوضاع السياسية في الخليج، هي ما كتب عنه أميتاف غوش في مقاله المهم "البترو مخيلة: الرواية واشتباك النفط" حول ما بثته وسائل الإعلام الغربية لفترة طويلة من الزمن عن انهيار آمال الديمقراطية في الخليج العربي بسبب تغييرات كان الفاعل الرئيسي فيها وربما الوحيد اقتصاد النفط، إذ أنه دفع لقمع أي جهود ديمقراطية شهدتها المنطقة. إن مقالة غوش هذه تُشرّح رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف، التي وبالمناسبة كان لها دور كبير في تشكيلي وتشكيل وعي كثيرين من جيلي حول واقعنا السياسي والاجتماعي، إذ لطالما اعتبرتُها وثيقة تاريخية للتغييرات الاجتماعية والسياسية في بلداننا الخليجية. دون أن يخطر على بالي، أنني بذلك ألغي هذه البلدان من الوجود قبل اكتشاف النفط، وألغي كل التفاعلات التي شكلت المجتمعات قبل اقتصاد النفط. هل يمكن أن يكون هذا الإلغاء ممنهجاً، أي أن أدوات دول اقتصاد النفط هذه ساهمت في هذا؟ ربما! لكن وفي هذه الحالة ما الذي يفعله المثقف إزاء خطاب المؤسسة الموجه والذي يحمل أجندتها؟ ألا ينبغي أن يكون بدوره قادراً على تفكيك هذا الخطاب، والنظر فيه؟
أعجبني مشروع نادر كاظم، الذي ينطلق من قراءة تاريخ مدينة المنامة من بين مسارات عديدة اتخذها هذا الباحث الجاد في عمله البحثي، ليس هذا فحسب، وربما لسبب من طبيعة الدراسات الثقافية وأدواتها، فهو يتقاطع مع تاريخ الأشياء في المنطقة ككل، لنجد أنفسنا إزاء سردية تقدم لنا قصتنا قبل النفط، تلك التي تغيب عن مركز الاهتمام المحلي والإقليمي والعالمي. هل لأن سلطة دول النفط مجدداً لا تريد لنا أن نعرف أنفسنا قبلها؟
عودة لمدن الملح وعبد الرحمن منيف، ينبه غوش للمكان الذي يضع فيه منيف "الآخر" القادم بآلاته ومشارطه من أجل التنقيب عن الذهب الأسود في واحدة من المناطق التي تعد من الأقسى طبيعة في العالم. "فهم ليسوا جشعين ولا بشعين. بل على العكس يتحلون بالطموح والمهنية." وبهذا فإن أهالي منطقة حران التي تدور فيها رحى قصة الجزء الأول من هذه الخماسية "التيه" ، " لا يعيشون انكسارهم الذليل عبر المواجهة المباشرة بل على العكس، يأتي انكسارهم من تجاهلهم، من كونهم لا يؤخذون بجدية، مجرد عقبة ضمن عملية تقنية مطولة في تنقيب النفط." وربما يمكنني الآن أن أفهم كيف يمكن أن يصبح القارئ أسيرا لدور يبدو فيه مذنبا لا فاعلا من ضمن فاعلين آخرين في تحديد مناخات هذه الدول وما يحدث فيها، هل يمكن أن نتجاهل وببساطة أطماع هذا الآخر، وتأثيره الكبير على ما حدث وما سيحدث؟ ثم ماذا عن هذه المجتمعات الإنسانية، هل كانوا صفحة بيضاء، هل كانوا جميعا متشابهين لا تباين فيما بينهم، ينحدرون من ثقافة واحدة، من منبت واحد؟ هل نبدو بالنسبة لرواية منيف إذن أنقياء وقد لبسنا جن النفط فاهتجنا بغير عودة مخلفين ورائنا براءتنا التي لن تعود إلا إذا زال ما كان سببا في إثراء اقتصاد بلداننا؟
يصبح الأمر أكثر غرابة، عندما نعرف أن حاجتنا لمعرفة أكثر بمجتمعات الخليج، ليست خاصة بنا وحدنا فها هو تيري لين في كتابه "مخاطر الدولة النفطية: تأملات في مفارقة الوفرة" يكتب "إن من الضروري السعي إلى فهم الأزمات في الدول المصدرة للنفط، لا لأنها تؤثر على حياة الشعب القاطن في داخل حدودها أو ضمن منطقتها فحسب، بل أيضا لأن صدى هذه الأزمات يتردد بقوة أعتى وأشد في أسواق العالم، وينذر سلام العالم أجمع بالخطر" مستشهدا بالأزمة التي هزت سوق النفط عام ١٩٩٠ بارتفاع الأسعار مع غزو العراق للكويت.
وقد نفكر أن تغيرات موقع سلعة النفط في عالم اليوم، يجعل البحوث والدراسات حول ما يتعلق بمجتمعات الخليج العربي أقل أهمية لكننا "أكثر من مدن ملح" حسب تعبير مقالة جديدة لموسى السادة بعنوان "شبه الجزيرة الأنجلو عربية: بريطانيا في الخليج" إذ يعتبر أن اختزال دول الخليج في علاقتها بالنفط أمراً كسولاً وأنه لا مناص من دراسة كل التحولات التي مرت بهذه الدول حتى ضمن الدور الذي ترسمه العلاقة بشبكة المصالح الاستعمارية التي شكلت المنطقة العربية معتمداً في أطروحته هذه على كتاب "لماذا تهتم بريطانيا بالثروة الخليجية" لديفيد ويرنيغ. ليس هذا فحسب بل حتى واعتمادا على النفط وحده وبسبب من طبيعة النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي، يجعل الأسواق الناشئة المعتمدة على النفط الخليجي فرصة استثمارية للدول التي أصبحت أقل حاجة للنفط مع مرور الوقت.
كان لدي طموح شخصي أن أؤلّف أسئلة جديدة حول النفط وبنى المجتمعات الخليجية التي أعيش فيها وأتفاعل معها كل يوم، وقد عولتُ وما زلت على كتاب لم أنه قراءته حتى الآن هو "تصدير الثروة واغتراب الإنسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية" للباحث البحريني الآخر عمر الشهابي. إذ يبدو العنوان وفهرس الكتاب والجزء الذي قرأتْ في تعالق بين عملية إنتاج النفط والناس ونمط حياتهم ووجودهم في هذا المكان.
إنها دعوة إذن للبحث في هذا الموضوع، والانطلاق في فحص السرد الخليجي وتقاطعه مع اقتصاد النفط وإعادة سؤال غوش إلى الطاولة: "لماذا يفشل اشتباك النفط في تشكيل مخيال أدبي؟" ولماذا لا يكتب عن الخليج اليوم عند من يقضون سنوات طويلة كعمال في الخليج، لو استثنينا رواية "أيام الماعز" لبنجامين التي كتبتُ عنها في عمودي هذا قبل أسابيع عن عامل هندي يجد نفسه متورطا في صحراء خليجية ليحكي معاناة طبقة كاملة مهمشة من سكان الخليج.
يقول غوش بهذه المناسبة أن أدب الرحلات في اللغة البنغالية من أبرز أنواع الأدب هناك ويتوفر على تدوينات عن رحلات لأمريكا وأوربا والصين بالإضافة لقصص وروايات كتبها مهاجرون في شتى أنحاء أوروبا وأمريكا "بينما لم تأت المئات المؤلفة من متحدثي البنغالية في مملكات النفط بأي نص ذي قيمة أدبية، أو بقيمة من أي نوع حتى"