أسوأ الأقفاص.. هي تلك التي نصنعها بأيدينا!

05 يناير 2025
05 يناير 2025

رسم شاحب، ألوان كابية، وتناسلٌ لا نهائي للموت والفقد. هذا ما شعرتُ به عندما شاهدتُ فيلم الأنيميشن «Memoir of a snail»، بسوداويته العارمة وانحرافاته غير الآمنة لدى تطرقه لبعض الموضوعات الحساسة، الأمر الذي يجعله -على نحو ما- غير ملائم للأطفال.

«موت الأمهات والآباء»، هو موضوع الفيلم، إذ يُسلط الضوء الكثيف على ما يُكابده الأبناء من حزن، عندما يُلقي الفقد بظلاله الداكنة على حياتهم، فيورثُهم آلاما نفسية لا تضمحل بيسر. تلك المشاعر الكئيبة التي تتملكُ الأبناء، فتجعلهم أكثر قابلية للتبلد أو تدفعهم للتلاشي وكأنّهم غير مرئيين من قِبل العالم!

يبدأ فيلم «Memoir of a snail» بقصّة ولادة توأم. لم تكن قصّة سعيدة، فقد انتهى قدومهما إلى الحياة بذهاب أمّهما إلى المقبرة. وُلدت «غريسي» قبل الأوان فكانت ضعيفة ومريضة وبحاجة لإصلاح شفتها العلوية المثقوبة، وعندما نزفت بشدة، تبرع لها توأمها «جيلبرت» بالدم الذي احتاجته، فتقوت أواصر العلاقة بينهما.

كانت الأمّ طبيبة وقد جمعتها علاقة طيبة بالحلزونات، فانتقل الهوس لابنتها «غريسي» لتعوض فقد الأمّ.

لا يمكننا تجاوز دلالة الحلزون، فقد تبدو صدفته صلبة ومتينة من الخارج، لكنها في الغالب تُخفي كائنًا رخوًا شديد الهشاشة بداخلها.

تماما كأولئك الذين يُظهرون قصّة مُغايرة لتلك التي يبطنونها تحت طبقات جلدهم.

في البيت الذي يغيب عنه دبيب الحياة، كبر الشقيقان وهما يقرآن ويشاهدان التلفاز. الخوف من فكرة الموت دفع «غريسي» لمساعدة المشردين، كما دفع «جيلبرت» لتحرير طيور الجيران من أقفاصها.

علّم الأب «غريسي» كيف تصنعُ مقطعا من الرسوم المتحركة، وعلّم «جيلبرت» بعض المهارات البهلوانية. لكن الأيام الثمينة بينهم كعائلة سرعان ما انقضت. فأدرك التوأم أنّ والدهما المشلول والمحبوس في جسده العاجز كحلزون مُسن آن أوان مغادرته الحياة أيضا.

لم يكن بحوزة التوأم المال لجنازة والدهما ولم يكن لهما أقرباء، فافترق التوأم، وذهب كل واحد منهما لحياة شديدة الغرابة مع عائلة جديدة.

وهكذا لم يعد «جيلبرت» موجودا ليكسر الأصابع التي تمتد لتؤذي شقيقته، فأخذت «غريسي» تلعبُ مع الحلزونات أو مع أصدقاء وهميين تصنعهم من الطين. فالحزن على فقدان العائلة دفعها لملء الفراغ بالمزيد من الحلزونات. كانت تجلب كل ما تراه على شكل حلزوني. ولم يملأ الفراغ الشاسع سوى ما تُرممه الرسائل بينها وبين أخيها لتجاوز المحنة وخيبة الأمل!

واصلت «غريسي» تمثل حياة الحلزونات، عبر انسحابها المستمر إلى حصن صدفتها الآمن. تفاقم الأمر عندما ظهرت لديها رغبات جديدة كالسرقة، أو الاكتناز بسبب التناول المفرط للطعام حتى غدت فتاة مثيرة للشفقة، منعزلة وغير محبوبة. فغدا العثور على رجل من أولئك الذين يُصلحون الأواني المكسورة ويحتفون بشقوقها المهترئة أمرا في غاية الصعوبة!

ثمّ جاءت الرسالة التي ستؤجل التئام العالم، فقد نما إلى علمها خبر موت الشق الآخر منها..توأمها، فدخلت «غريسي» في سبات عميق كذاك الذي تدخله الحلزونات لحظة الكمون. اعتراها الندم الشديد، على المال الذي كانت تبدده في اقتناء الأشياء التي بلا أهمية، والذي كان من الممكن أن يُوفر ثمن تذكرة للذهاب إلى «جيلبرت»!

تعرفت «غريسي» على سيدة عجوز «بينكي»، أحدثت توازنا هائلا في حياتها. امتلكت حكمة تقول: «ما يحتاجه الناس لا يتعلق بالنظر إلى الماضي وإنّما بالمضي إلى الأمام». كانت للعجوز قصّة أيضا، فلقد ولدت أثناء الحرب، فلم تُحضن ولم تجد الاهتمام أو المحبة، بينما كانت تكبر في قفص، لكنها تعلمت أنّ أسوأ الأقفاص هي تلك التي نصنعها لأنفسنا. الأقفاص المصنوعة من مخاوفنا. القواقع التي تحجب الطريق وتُعرقل المضي قدما لمواجهة الحياة بجرأة. فالأشياء التي تربطنا بالماضي، تثقل حركتنا أحيانا، تعيقُ النظر لنسيج الحياة المكتمل. ولذا بدت «بينكي» العجوز المرحة نقيض «غريسي» الشاحبة المتململة، فالطفولة الرديئة لم تكن لتُعطل عجلة الزمن أو توقفها، ولذا ينبغي على كل واحد منا أن يتحكم في الجزء المتعلق به من قصّته الشخصية.

لكن كما يبدو.. نحن لا نفهم الحياة إلا عند تدبر ما قد مضى منها، ثمّ تأتي إرادة الانفلات من قبضة الماضي الصلبة. كتلك الحلزونات التي تمضي قدما مخلفة أثرا لامعا في الطريق الذي عبرت فوقه غير مُبالية بماضي حياتها المكفهر.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى