أثر الفراشة
في مقالتي السابقة «كرة الثلج» تحدثت عن مايو 1968 والاعتصامات الطلابية في باريس والتي انبثقت منها قرارات وإصلاحات لم تكن لتحدث لولا تلك الاعتصامات الطلابية، وقد كتبت تلك المقالة استحضارًا للتاريخ كي يشهد اليوم ما حدث بالأمس، ولكن هذه المرة انطلقت تلك الاعتصامات من الضفة الثانية للكرة الأرضية، أمريكا. استبشر المتابعون للاعتصامات والمظاهرات الطلابية خيرا وهم يرون تلك الأجيال التي تم تدجينها بسرديات صهيونية تجعل استمرار المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة أمرا حتميا قابلا للتجدد وإن تغيرت الدماء ورحل عتاولة الاستيطان الأولون وجاءت بعدهم أجيال أكملت مسيرة امتصاص الأرض ودم أهلها لعقود طويلة، لكن الاعتصامات الطلابية قد تكون القشة التي تقصم ظهر المشروع الصهيوني، وتتحرر فلسطين كاملة كما حدث في جنوب إفريقيا، مع اختلافات جوهرية في الحالين لن يتسع المقام لذكرها.
وددت أن تكون هذه المقالة جزءًا ثانيًا من المقالة الأولى، لكن العدو الصهيوني لا ينفك يدهشنا بقدراته العجائبية واللامتوقعة لحدود الشر! وهو ما يعيدنا إلى استحضار كتاب الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة آرندت «تفاهة الشر» الذي ظل خنجرا في خاصرة المشروع الصهيوني من مفكر يهودي بارز، كما هو حال غارودي وتشومسكي اليوم وآخرون من اليهود الذين عوّل عليهم المشروع الصهيوني في اكتساب شرعية وجوده، ولكن الخير الإنساني فيهم انتصر على ظلامية المشروع السرطاني للدول الاستعمارية، إسرائيل. تابع الجميع بفرح بالغ خبر قبول حماس للاتفاق القاضي بوقف النار والعدوان؛ وإذا بنا نشاهد اجتياح الاحتلال لرفح أمام مرأى العالم، في مشهد يبعث على الاشمئزاز العنيف ويعيد السؤال والمخاوف في آن؛ هل نحن في مأمن من العدو؟
إن بدء اليوم بقراءة الأخبار يغدو أكثر إيلاما، يوما بعد يوم؛ ذلك الشعور بأننا عالقون في حلق الوجود، هل سننجو من جنون المسخ الغربي؟ الذي كان يبيد كل ما هو «غير غربي»، لتنقلب المعادلة فجأة إلى إبادة كل ما يعد «رأيا آخر» وهو ما تؤكده الاعتصامات الطلابية والتي لسخرية القدر تضم كثيرا من اليهود الأمريكيين، وقد تكون الإبادة هنا بمعنى الاغتيال الاجتماعي الذي ينسف أي مستقبل ممكن للفرد المشارك فيما تحظره القوى المهيمنة على المشهد. للسياسيين الأوروبيين رأيٌ آخر حين يتعلق الأمر بالشعوب، يتعاملون مع الشعب بوصفه شيئا جامدا يمكن التنبؤ بتحركاته ومآلاته، لكن التاريخ البشري يؤكد دوما قدرة الكامِن الساكِن على الانبعاث مرةً وإلى الأبد. فقد لا يكون تأثير المظاهرات الطلابية في أمريكا وأوروبا -خصوصا- تأثيرا آنيًّا، فلم يعد للفرنسيين القدرة على وضع المتاريس في الأزقَّة الباريسية ليواجهوا الظلم المستفحل وقد جاوز المدى، ولم تعد الدول الاستعمارية تستعمر الدول ببني جلدتها كما في القرون الثلاثة المنقضية، لكنَّ المؤكد أنَّ أثر الفراشة آت لا محالة؛ فسؤال العالم الأمريكي إدوارد لورنز «هل رفرفة أجنحة الفراشة في البرازيل يمكن أن تسبب إعصارا في تكساس؟» جوابه الحتمي هو الإيجاب، لكن السؤال يبقى عن موعد ذلك ليس إلَّا.
سيغدو الأمر أكثر سهولة لو أننا نسينا أو تناسينا فلسطين والقضية، وهذا ما يفعله كثير من الناس جرّاء تخمة الفردانية التي وسمت كل شيء بميسمها الأناني «هل هذا يضرني أو يمسني شخصيا؟ لا؛ فلماذا أكترث؟»، لكنَّ محاولة العيش وكأننا سنعيش للأبد، وأن نطأ على جراح اليوم إيمانا بما نترقب حدوثه غدا «الحرية والتحرر من الاحتلال»؛ يغدو فعلا مُقَاوِمًا أكثر فأكثر، وهو ما يجعلنا في مأمن من شراسة الشر ومثابرته. فقد كنا في بداية الأحداث نؤمن بالنشر والتعريف بالقضية من منطلقاتها الأساسية الصحيح، لا السرديات التي يرددها الاحتلال ومشايعوه، لكن السؤال الأبرز اليوم لم يعد «من يملك الحق؟» بل صار «ما الجدوى من معرفة الناس بالحقيقة؟»، وهو سؤال قد تمنحنا تطورات الاعتصامات الطلابية في البلدان الداعمة للاحتلال إياه. لكن واجبنا الأخلاقي والإنساني والعروبي والديني؛ كلها تجعلنا نتألم ونكترث لأمر فلسطين والفلسطينيين، فهم إخوتنا ودمهم دمنا، ولا نريد أن يأتي يوم نقول فيه «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
أؤمن بأن التحرر مجموعةٌ من القطرات التي تشكِّل الطوفان الجارف، والتعويل على فعلٍ واحدٍ كبير من شأنه أن يقتلع الجذور المتعفنة للظلم، ليس إلا ضربا من الجنون. فالمقاومة فعل متجدد، وإلا لماذا يناقش الفلسطيني رسالته الأكاديمية في خيمة آيلة للاختفاء جرَّاء صاروخ طائش أو آخر موجَّهٍ؟ ولماذا يكترث إنسان لا يجد ما يسد به رمق جوعه بالقطط السائبة في الشوارع الغزِّيَّة ويطعمها كما لو كانت ضرورة إطعامها كضرورة إطعامه هو نَفْسِهِ؟ المقاومة بالكلمة ذات أهمية بالغة ومؤكدة؛ لكن المقاومة بالكلمة وحدها، لن تطعم جائعا أو تُؤوي مشردا، هنا يغدو الفعل ضروريا وحتميا، متجاوزا كل أثر للكلمة. ولأنه حتميٌّ؛ قد لا ندرك معنى أن يكون غسان أبو ستة رئيسا لجامعة غلاسكو -ذات منصب صاحب الوعد المشؤوم «بلفور»- أو البروفيسور سامر العطعوط الذي ضربته الشرطة الأمريكية موجودا في الصف الأمامي في دفاعه عن طلابه المعتصمين، فبالنسبة إلى الفلسطيني تغدو المقاومة في كل مكان أمرا حتميا، لكن بالنسبة إلى المتفرجين من بعيد فإن ضرورة أن تكون المقاومة المختومة بالشهادة هي السبيل الوحيد للاعتراف بجدوى المقاومة! وهو ما ينبغي نقده ومحاكمته من قبل المثقفين والمتنورين.
إن فعل المقاومة يدفع كل المؤمنين بأوطانهم بأن يعملوا جاهدين كي يبلغ الوطن الواقع الذي يمكِّنه من الاعتماد على نفسه في كل شيء، في الصناعة والزراعة والطب والتقنية والدفاع؛ في كل شيء حرفيا. وإن كنا لم نستخلص العبر مما فعلته أمريكا بالعراق وتخلي كل أحد عنها خوفا من وحشية «شرطي العالم» أو تواطؤا معه؛ فإن ما يحدث في غزَّة درس لا يحتاج إلى أستاذ ليشرحه، فمهما بلغ حجم التعاون مع الغرب فإنه لن يعامل الدول التي لا يرى لها مكانةً كمكانته معاملةَ الند للند، التي تستوجب الاحترام والصدق والوفاء بالعهد. ولنجعل من الظلم وقلة الحيلة دافعا لنا كي نفعل ما يمكن فعله للعمل بصدق في رفعة أوطاننا وتحرير إخواننا، فباليأس مما يفعله الاحتلال نضيف «ضحية أخرى إلى ضحايا إسرائيل» كما يقول أحد الأصدقاء.
ينبغي علينا أن نعود إلى قراءة الواقع بأعيننا نحن، بأعين العربي الذي صال وجال وأثَّر في الحضارة بل وبناها؛ لا بأعين المستعمر الذي بثَّ فينا بأننا «عالم ثالث» و«دول نامية»، وليس المقصود هنا بأننا نعطي أنفسنا حجما أكبر من حجمنا الحقيقي، ولكن بأن ندرك إمكاناتنا الكامنة ونستخلص منها أفضل ما يمكن استخلاصه، وأن لا ننظر إلى أنفسنا تلك النظرة الناقصة التي مكّنت كل أحد من تجاوزنا. وليس فيما قلت ضرب من الجنون، فكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايوان وغيرها من الأمثلة الحية دليل على أن الرغبة الصادقة المقرونة بالتفاني الحقيقي يحوّلان الأمنية إلى حلم، ولنتذكر مرة أخرى قول جدنا العربي:
وما مُنعتْ دارٌ ولا عزّ أهلها
من الناس إلاّ بالقنا والقنابل