400 ساعة
السفر وحيدا عبر السيارة، يفتح أبواب التأمل في الطبيعة والتضاريس المختلفة التي يمر المرء عبرها في رحلته، لكنه يُشرِع الأبواب الداخلية لنفسه وحاجاته الروحية كذلك. تركز الكتب والمحاضرات التوعوية التي تعالج الأسئلة الوجودية للإنسان وتقرب إليه الحقائق الكونية على الأحداث المفصلية في الحياة، الأحداث التي تكون في غالبها مآسي لا يقوى المرء على تكرارها، فمن وفاة عزيز أو إصابة بمرض أو فقد لمصدر العيش وغيرها مما يندرج تحت هذه الأحداث التي تجعل المرء يتأمل طويلا -إن لم يصب بحالة يأس واكتئاب!- لكن الأحداث العادية، الأحداث اليومية البسيطة هي ما تحدد سيرورة حياة الإنسان في الحقيقة، وليست تلك الأحداث المفصلية رغم أهميتها بالطبع.
من يطالع كتب الأمثال لدى الشعوب العالمية تصيبه الدهشة من تطابق النتائج النهائية لتلك الأمثال، صحيحٌ أن كل مثل منها يرتبط بالبيئة التي خرج منها، ففي الصحراء نتحدث عن المطر، وفي الجليد نتحدث عن النار؛ لكن الخلاصة والعبرة من تلك الأمثال متطابقة تطابق التجربة الإنسانية ذاتها. أي أن الوعي الإنساني متطابق في حقيقته، ولكن يختلف رداؤه وفقا لعادات وطبيعة وثقافة كل شعب من تلك الشعوب.
يقول أبو العتاهية في شطر إحدى قصائده «إِنَّ القَليلَ بِالقَليلِ يَكثُرُ» كما قال الشاعر الآخر «ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ» ، ويقول كبار السن «قَطرة وقَطرة، تسيَّل الوادي» أي أن الوادي الجارف مكوَّن في حقيقته من قطرات صغيرة تجمَّعت وشكلت ذلك الشيء الكبير.
لا أتنبَّه عادة إلى عدَّاد السيارة الخاص بالرحلة «Trip»، والذي نتذكره عادة للرحلات الطويلة والمسافات التي لا تنتهي. في طريق صحراوي طويل وممتد، كنت أراقب مؤشرات السيارة واحدا بعد الآخر، حتى وقعت عيني مصادفة على العدد 400 ساعة وبجانبه عدد الكيلومترات المقطوعة. بغض النظر عن عدد الكيلومترات والتي تختلف من سيارة لأخرى حسب قيادة كل شخص، فإن الرقم 400 مقسوما على عدد الساعات في كل يوم يساوي ستة عشر يوما ونصف اليوم من حياة المرء!. هذا العدد المخيف من الوقت المهدور لو قمنا باستغلاله جيدا فإنه يسهم في تقوية معارفنا وتوسيع مداركنا بصورة سريعة لا نشعر بها «قطرة وقطرة..». فكما يقول بعض المتخصصين، يحتاج المرء عشرين ساعة لإتقان مهارة جديدة أو تعلم شيء جديد، وألف ساعة ليكون خبيرا في تلك المهارة أو العلم؛ وبطبيعة الحال فإن هذا المتوسط الحسابي يختلف من إنسان لآخر بناء على قابليته للتعلم وتباين الملكات العقلية لكل إنسان.
نعيش اليوم العصر الذهبي للتعلم كما لم يُتح لأسلافنا من قبل طوال التاريخ. فمن لا يحب الاستماع إلى كتاب مقروء وهو يقود سيارته، يستطيع تعلم لغة جديدة عبر مهارة الاستماع وحدها. ومن يكمل دراسته الأكاديمية، يستطيع الاستماع إلى محاضراته والشروح المصاحبة لها وهو في الطريق. ومن يحب الشعر يمكنه الاستماع إليه صوتيا بإلقاء عدد من المجيدين ذوي اللغة الفصيحة السليمة. وبدلا من قول يزيد بن الطثرية:
وَيَومٍ كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرَ طولَهُ
دَمُ الزِقِّ عَنّا وَاِصطِفاقُ المَزاهِرِ
تصبح الطريق الممتدة ممتعة، ويصبح اليوم الطويل قصيرا جرَّاء تلك المتعة واللذة المعرفية، بل إن المرء يصبح هادئ البال مرتخي الأعصاب حتى في الزحام المروري.
وكما أشرت في مقال سابق عن مكانة الكتب الصوتية، فإن الخيارات العديدة للمادة الصوتية المتاحة مجانا لا تمنحنا العذر في التكاسل وإهدار الحياة، فكما أن الوادي مكوَّن من قطرات صغيرة، فإن حياتنا سويعات متراكمة..
علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني