د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي - وقع في الأسبوع قبل الماضي حادث غير عادي في الملاحة الدولية، حيث جنحت في قناة السويس سفينة ضخمة، فتعطلت الملاحة في القناة وتسببت في توقف مئات السفن على طرفيها انتظارا للسماح لها بالعبور، مما أدى إلى اضطراب في حركة الملاحة في العالم وإلى تأخر في وصول كثير من السفن المحملة بالسلع والبضائع إلى مقاصدها. وقد قيل في حينها إن السبب وراء جنوح السفينة هو اضطراب الأحوال الجوية الذي أدى إلى ريح عاتية حرفت السفينة عن مجراها العميق نحو الجزء غير العميق من القناة، فتوقفت السفينة معترضة مسار الملاحة، وفي وقت لاحق قيل إن التحقيق لا يزال جاريا في سبب الحادث، وربما تكشف الأيام القادمة عن أسباب أخرى له أوتؤكد السبب المعلن. السفينة اسمها إيفر غيفين، وتملكها شركة شوي كايسين كايشا اليابانية، وهي ترفع علم بنما، وتديرها شركة إيفرغرين التايوانية، وقد صنعتها شركة هايونداي الكورية. السفينة المعطِلة والمتعطلة من السفن الكبيرة، إذ يبلغ طولها 400 متر وعرضها 59 مترا ويبلغ وزنها 224 ألف طن وكانت متجهة من الصين إلى عدة موانئ، آخرها ميناء روتردام في مملكة نذرلاند، وعليها آلاف الحاويات التي تقدر قيمة ما بداخلها من بضائع بحوالي مليار دولار أمريكي. ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلت لتعويمها وتحريكها، إلا أن السفينة بقيت جانحة في عرض القناة لمدة خمسة أيام. لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، ولا أعتقد أن كل ما يقع علينا أو حولنا هو بفعل فاعل تعمد أو تقصد فعله، إلا أنني في الوقت نفسه لا استبعد نهائيا حدوث المؤامرات والدسائس بين البشر، وخاصة في عالم السياسة. وكقارئ للتاريخ أرى ألا تكون قراءتنا له لمجرد الاستمتاع بأحداثه وقصصه، وإنما الأهم من ذلك للاستفادة منه والاتعاظ به، خاصة في تفسير ما يقع في منطقتنا الغارقة في الأوحال والحافلة بالأحداث، وهي أحداث بعض منها طارئ وبعض آخر استمرار لأحداث سابقة أو تكرار لها. وهنا يحضر قول ابن دريد الأزدي عن التاريخ وعِبره: «من لم تفدهُ عِبَرًا أيامهُ كان العمى أولى به من الهدى». عند متابعة هذا الحادث والصعوبات التي اعترضت إرجاع السفينة إلى مجراها المعتاد للإبحار، والزمن الذي استغرقه ذلك، تذكرت ما قاله قبل بضع سنوات الكاتب العربي والصحفي المصري محمد حسنين هيكل في حلقات له بثتها قناة الجزيرة. قال هيكل، وهو المطلع بعمق على تفاصيل وخفايا أحداث الفترة التي أعقبت ثورة يوليو 1952 في مصر، إنه بعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم الشركة البريطانية الفرنسية التي كانت تدير وتشرف على قناة السويس في عام 1956 وبعد العدوان الثلاثي على مصر الذي تلا التأميم، خططت بريطانيا وفرنسا لافتعال حادث يعيق المرور في القناة، وذلك بتعطيل سفن في مجراها لمنع الملاحة فيها. وكان الهدف من ذلك الإيهام بأن مصر غير قادرة و ليس لديها الكوادر المؤهلة لإدارة القناة وإرشاد السفن في عملية عبورها، وذلك لإيجاد مبرر قد يقبل به الرأي العام وبعض الدول لعودة السيطرة البريطانية على منطقة قناة السويس. ولما كان العالم اليوم مليئا بالأحداث والاضطرابات المتوقعة وغير المتوقعة، فإن حادث جنوح السفينة في قناة السويس يثير تساؤلات حول أسبابه ودوافعه، خاصة في هذه الفترة التي تشهد فيها الملاحة في المنطقة حوادث مريبة. ومن تلك الحوادث الهجمات العديدة على سفن وموانئ في البحر الأحمر، وكذلك الحادث الذي تعرضت له قبل أسابيع سفينة إيرانية في البحر الأبيض المتوسط، إلى غير ذلك من حوادث متكررة وقعت في بحر عمان والخليج العربي. افتتحت قناة السويس في عام 1869 وقد استغرقت عملية حفرها مدة عشر سنوات. ومنذ افتتاحها أصبحت للقناة وللمنطقة الواقعة على ضفتيها أهمية كبيرة لمصر وللعالم، سواء من النواحي الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية. وحين توقفت الملاحة في القناة نتيجة لحرب يوليو سنة 1967 ولمدة ثماني سنوات، عانت مصر من خسائر كبيرة، لاسيما توقف الإيرادات المالية التي كانت القناة تدرها عليها، إلى أن أعيد افتتاحها في منتصف عام 1975. ونظرا لتلك الأهمية قامت مصر منذ تأميم القناة في عام 1956 بتعميق مجراها وتحسين الملاحة فيها عدة مرات. لكن النمو المتزايد في التجارة العالمية وزيادة أحجام السفن وسعتها استدعى القيام بعمل أكبر، وهو شق قناة موازية لجزء من القناة القديمة بطول 35 كيلومترا. كان موضوع التوسعة مطروحا منذ إعادة افتتاح القناة في عام 1975، لكنه لم ينفذ حتى عام 2014. وجرى تنفيذ المشروع في زمن قياسي استغرق سنة واحدة فقط منذ بدء حفر القناة الجديدة حتى افتتاحها في سبتمبر عام 2015. بلغت تكلفة مشروع شق القناة الموازية حوالي 4 مليارات دولار أمريكي، وقد جرى تمويله عن طريق إصدار الحكومة المصرية لشهادات استثمار بالجنيه المصري اكتتب فيها المواطنون المصريون، وبلغ جملة ما تم جمعه من إصدار تلك الشهادات 61 مليار جنيه مصري، وتعطي الحكومة فائدة سنوية لها نسبتها 12% تدفع كل ثلاثة أشهر. كل ذلك جعل الكثيرين ينظرون إلى مشروع التوسعة كمشروع وطني لمصر، سواء من حيث أهميته أو من حيث سرعة تنفيذه وتمويله. لا شك أن سفنا كثيرة بحجم السفينة ايفر غيفين EVER GIVEN تعبر قناة السويس، إذ إن عدد السفن التي تمر فيها يوميا يتراوح ما بين 70 إلى 80 سفينة وربما أكثر من ذلك في بعض الأيام. أما حجم ما يتم نقله من سلع وبضائع عبر القناة فيصل إلى حوالي 12% من مجموع التجارة العالمية. ويقدر الخبراء أن تعطل المرور في القناة تسبب في تأخر وصول ما قيمته 400 مليون دولار من السلع في الساعة إلى مقاصده حول العالم. ورغم الظروف التي يمر بها الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، إلا أن إيرادات قناة السويس في عام 2020 بلغت حوالي 5.6 مليار دولار، أي أنها لم تنخفض كثيرا عما كانت عليه في عام 2019 حين وصلت إيرادات القناة رقما قياسيا بلغ 5.9 مليار دولار، أي حوالي 10% من مجموع إيرادات الحكومة المصرية. ونظرا لضخامة عدد السفن العابرة للقناة والمبالغ التي تدفعها كرسوم عبور أو لخدمات الأخرى، فإن توقف القناة عن العمل و لو لأيام قليلة يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة لمصر وللاقتصاد العالمي، كما يؤدي إلى خسائر كبيرة للشركات العاملة في مجالات النقل والتأمين والتجارة في المنطقة وحول العالم. وقد دفع هذا الحادث ببعض المصدرين والشركات المالكة للسفن إلى تحويل مسار سفنهم خلال الأيام الماضية إلى رأس الرجاء الصالح أو تأجيل شحنها إلى مقاصدها. لكن الأهم من ذلك أن الحادث أثار أو أحيا أفكارًا لمشروعات قد تصبح بدائل لقناة السويس، ومنها ما تناقلته الأخبار عن عرض شبكة القطارات الروسية توسيع خدماتها في مجال نقل البضائع بين آسيا وأوروبا. كما عاد الحديث في «إسرائيل» عن مشروعات كانت تروج لها منذ زمن لمنافسة قناة السويس، وهي شق قناة موازية لها بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط، ومشروع لمد أو توسيع البيب (الأنبوب) الموجود حاليا وينقل النفط ومشتقاته بين ميناء إيلات وميناء أشدود، وكذلك مشروع لمد سكة حديد لنقل البضائع بين الميناءين المذكورين، على أمل مده إلى بلدان الجزيرة العربية. ولا شك أن طرح هذه المشروعات أو الترويج لها يقرع أجراس إنذار لأنها ستؤثر سلبا على قناة السويس. أخيرا، وبغض النظر عن السبب الحقيقي لجنوح هذه السفينة فإنه يؤكد ما قلناه في مقال سبق نشره في جريدة عمان عن أهمية استثمار الموانئ العمانية لموقعها وللأوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة، خاصة وأنه يتم في الوقت الحاضر طرح أكثر من مشروع وفكرة لنقل التجارة بين آسيا وأوروبا وجميعها قد تصبح بديلا أو منافسا لقناة السويس ورأس الرجاء الصالح. أقول هذا من باب تبادل المصالح والمنافع بين الشعوب والبلدان، وليس من باب موافقة أبي الطيب المتنبي في قوله «مصائب قوم عند قوم فوائد»، فعمان أكرم من أن ترى في مصائب الآخرين فائدة لها؛ لأنها كما هي دائما المرفأ الآمن حين تضطرب الأحوال وتشتد العواصف، وهي اليد التي تعطي طوق النجاة لكل من أراد الخير والأمن للناس. وموانئ عمان، خاصة في صلالة والدقم، تتيح للاقتصاد العالمي وللتجارة العالمية بدائل مناسبة لكونهما ميناءين قريبين من خطوط الملاحة العالمية و فيهما ما تحتاجه التجارة العالمية من مساحات و بُنى أساسية للتخزين ولتجارة العبور. ** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية.