مسقط - «العمانية»: تتميز تجربة الشاعر عوض اللويهي بما تشرعه من أبواب لا تنفتح على الخارج بقدر ما تطلّ على الذات مزيلةً الحُجب التي غلّفتها، ومستأصلةً العتمة فيها، وسامحةً بمرور الضوء إلى تعرّجاتها؛ فالنور هو وحده القادر على كشف أعماق الذات ودهاليزها وملامسة أحلامها وهواجسها ومخاوفها، وبذا تصبح هذه الذات مركزاً ويصير الشاعر نقطةً تدور في فلكها.
هذا ما تكشفه المجموعتان الأخيرتان للّويهي اللتان صدرتا بالتزامن (2018): «بصيرة وحصى» (الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء) و«العتمة تفرّ من ظِلالها» (دار مسعى). إذ تفتح قصائده ذات المسحة الفلسفية العميقة، كل الأبواب الممكنة على الذات ليقترب منها الشاعر، ويصورها في حالاتها المختلفة؛ في عزلتها تلك التي تشبه «الجمر الخافت تحت الرماد» كما يصفها في أحد قصائده، وفي نورانيتها إذ ينبثق النور من داخلها:
«إنني لا أفرح بالضوء
من جهة الباب
ولا
من النافذة أو النار
أفرح بذلك الضوء
المنبثق فجأة
لكأن الظلام اخترعه».
كما يصور الشاعرُ الذاتَ في شكّها ويقينها، وفي غضبها وارتياحها، وفي ارتباكها وعشقها، وفي رغباتها وزهدها، وفي مادّيتها وتجليات روحها الصوفية:
«الأشياء من حولك
تصرّ على ارتكاب الأخطاء
دون أن يرفّ لها جفن
تصرّ أنت على البقاء بلا أخطاء
مراقباً الأبد في كمالك».
ينطلق اللويهي من رؤى الذات وتأملاتها ليجمع شذرات الحياة، مشكّلاً لوحة من الفسيفساء تعود الذات فيها إلى طفولتها، فمرحلة الطفولة تمثل منجماً للعديد من الشعراء، ولكل منهم رؤيته لهذه المرحلة والتي يعبّر عنها بالصور الشعرية وبالرموز والإسقاطات. واللويهي في قصائده يعود إلى طفولته بوصفها رمزاً لمرحلة تتميز بالفطرية والعفوية والانسجام مع الطبيعة وموجودات الكون:
«صغاراً كنا ونحن
نبحث عن نافذة لم تطمثها الشمس
موسعين رئة النار
بالعراجين القديمة».
ويقول في نص آخر:
«المناديس العتيقة
خبأت ظمأ الطفولة
في عقود الياسمين
فضّة العرس القديمة
لم يغادرها بهاءُ الورد».
والطفولة مرحلةٌ تعبّر أيضاً عن الحنين الساكن في روح الشاعر للقرية وبساطة الحياة فيها، حيث التصالح مع الطبيعة والاندغام في مفرداتها:
«ما نفع أضوية الشوارع في الليل
إن كنا نتخبط
في الوصول إلى صفاء النبع
الذي نسيناه في القرى».
وربما تمثل مرحلة الطفولة عودةً إلى حياة الإنسان الأول، حيث لم تكن يد الخراب قد لوثت العالم بعد:
«هيا نعود إلى الكهف
نرسم قبح العالم
حتى لا نعيشه
نرسم الخراب
حتى يبقى حبيس الصخر
ونصير أنا وأنتِ
شجرتين نديتين
تحرسان الكهف».
تبدو قصائد اللويهي نسيجاً متماسكاً تجتمع فيه صور تعبّر عمّا تناثرَ عبر الجغرافيا، حيث تحضر عُمان بنخيلها وينابيعها وسمائها وقمرها وليلها، وأشجار السيداف التي يمكن النظر إليها كانبعاث طائر الفينيق من بين الرماد بعد الرقاد:
«هكذا بقينا
أشبه بأشجار السيداف
ميتة تبدو في عين الناظر
لكن خضرتها لا تلبث أن تنطق
كلما تدفقت الأودية
وامتلأت الوهاد بالمياه».
تفيض قصائد اللويهي بمعاني الاغتراب وتجلياته، حتى في تلك الأشياء الصغيرة التي ربما لا يلتفت لها البال، حيث يوظفها الشاعر ليعبّر من خلالها عن معانٍ عميقة ما كان لها أن تكون كذلك لولا أن الذاكرة لا تكترث بحجم الأشياء وأهميتها المادية، وإنما تختزن ذلك الشعور العميق الذي ولّده الشيء -مهما صغر- لحظةَ حدوثه في النفس واختزانه فيها؛ أي الذاكرة. من ذلك قصيدة تتحدث عن «فتنة الشاي»:
«في ظلام الحديقة
لا شيء يوغل في القلب
غير دفء يديك
لا شيء يبقى
من متع الشاي
في شفتيك
سوى لمعة
نتقاسمها خلسة
فوق مقعدنا في أقاصي الحديقة».
وكذلك في قصيدة «احتراق»، ومنها:
«تعود الظلال
إلى قهوة البيت
هجعة البئر
والماء لا شيء
يعنيه حتى الغرق».
وفي مقطع آخر يقول اللويهي:
«أنا خطوتان لشعرْكِ
في فسحة المدرسة
واكتمال اشتياقي
حين يسيل
على وجنتيك العرَق».
ويبدو واضحاً حرص اللويهي على الاشتباك مع المتلقّي بدءاً من العتبات الأولى، كالعنوان، مروراً بكيفية توزيع النص في فضاء الصفحة، وليس انتهاء بتقطيع حروف الكلمة وبعثرتها في البياض، وسوى ذلك من تقنيات بصرية. وهو ينطلق في هذا التوجه من البحث عن جماليات تخدم النص الشعري من جهة، ومن جهة أخرى تتطلع إلى التجديد والتغيير وفتح أبواب التجربة على مناخات وآفاق بصرية غير تقليدية.
وتتجلى في تجربة اللويهي الشعرية ثقافة فنية لا تؤمن بالحدود، حيث ينهل من جماليات اللوحة التشكيلية، سواء من جهة اللون الذي يكون في اللوحة مادياً محسوساً، بينما ينعكس في تجربة الشاعر بالكلمات والصور الجديدة والمدهشة، أو من جهة المضمون حيث يقترب اللويهي من جماليات الطبيعة ويعبّر عنها.. ومن الأمثلة على هذا التماسّ مع التشكيل البصري:
«أنا الرمل منجرح بالحصى
ولا شيء يغسلني غير مائك».
وكذلك:
«اللون يلمع
مرة أخرى
ويفتح في جذوع السقف
جنّته الندية بالغمام».
وأيضاً:
«تهتف الأسقف للمزاريب
أن تنزلق في الليل
إلى حضن الماء
المغتبط في الوادي». ومن التقنيات الأسلوبية التي تظهر في شعر اللويهي التناص مع القرآن الكريم أحياناً، حيث تتجلى القيمة الفنية والجمالية للنص القرآني إلى جانب كونه كتاب هداية وتشريع وأخلاق، وكثيراً ما نهل الشعراء والمبدعون مما يكتنزه هذا النص من قيم تعبيرية وفنية تغْني نصوصهم الإبداعية وتخصّبها. كما يتفاعل نص اللويهي مع مخزونه القرائي الذي يعبّر عن وجوده في لحظةِ الكتابة متجسداً في النص المكتوب، وهو تفاعلٌ له دور في تجديد التجربة الإبداعية وتطويرها ودفعها قدماً للأمام.