د. أحمد الكعبي -
لقد افترض الحق تبارك وتعالى عبادة الصيام على الأمة لتتهذب بها من أراذل العادات، ولتتخلص بها من أدران الأخلاقيات؛ ولتصبح أمَّةً رائدةً في أخلاقياتِها قائدةً في مسيرتها تتحكمُ في ميولِها واتجاهاتِها، لا تَضْعُفُ أمام المُغْرياتِ، ولا تذلُّ أمام الشهوات والنزوات. من هنا إذا ما أَحْكَمَتْ الأمَّةُ صيامَها، وأحسنتْ لربها في عباداتها أصبحت أمةً مثاليةً تحذو الأممُ حذوها، وتتلمسُ البشريةُ خُطَاها، وهذا ما استطاع أن يحققَه المسلمون الأُولُ حيث دانت لهم مشارقُ الأرضِ ومغاربُها، فأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه، ومن جَوْرِ الأديانِ إلى عدالةِ الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخرة وما أجمل ما قاله القائل:
إنَّ البطون التي اكتظت بشهوتها
قد اشترت بالعلا قيدا من التُخَمِ.
وأمَّا النفوس التي صامت لخالقها
فدوخت عاهل الرومان والعجم.
لقد شكَّل الصيام للصائمين الذين يحسنون لربهم الصيام حصانةً إيمانيةً من الوقوعِ في الشرورِ والآثام، وحائلا دون ارتكاب المحرمات واقتراف قبائح العادات، فلا يقابل الصائم الإساءةَ بإساءةٍ مماثلةٍ، ولكنَّه يعفو ويصفح مُعْتصِما بصيامه في مواجهةِ السفهاء، ومُتَحَصِّنا بإيمانه أمام الجهلاء مستحضرا أمامه ذلك البيانَ النبوي الذي يقول فيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبَحَ أحدُكم يومًا صائمًا، فلا يرفُثْ ولا يَجهَلْ، فإنِ امرؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَه، فلْيَقُل: إنِّي صائِمٌ، إنِّي صائِمٌ».
الصيام في الإسلام لم يُشْرع لنجوعَ ونتعذب، إنما شُرِعَ لنستقيم ونتهذبَ والمؤمن وهو يعيش في مجتمعٍ لن يستطيع أن يُرْضيَ الناسَ جميعا حيث إنه سيجد منهم الحاقد والحاسد، وسيرى فيهم من يطعنُ في سلوكه ويُشَكِّكُ في نواياه، ويعايش منهم سليط اللسان وسيءَ الخلُقِ، فالكيِّسُ الأريبُ والفَطِنُ اللبيب عليه أن يستوعبَ تلك النماذجَ كلَّهَا متحصنا بإيمانه، محافظا على آداب صيامه ملتزما بذلك الهَدْيِّ النبويِّ «الذي لا يجزي بالسيئة السيئةَ ولكن يعفو ويصفح» فجديرٌ به أن يكظمَ غيظه، ويعفوَ عمنْ ظلمه، ويعطيَ من حرمه، ويحسنَ إلى من أساء إليه عسى أن يكون من تلك المنظومة القرآنية التي أعلى اللهُ شأنَها، ورفع في العالمين ذكرَها، إنهم:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*}.
إنَّ الأمة بحاجةٍ إلى أن تفقهَ المعانيَ الجليلةَ والغاياتِ النبيلةَ التي من أجلِهَا شُرِعَ الصيامُ بصفةٍ خاصةٍ، وشُرِعتْ العبادات كلُّها بصفةٍ عامة، فليست القضية امتناعا عن المطعومات والمشروبات وسائر الملذات وكفى! كلا كلا فالغاية أسمى وأجلُّ، إن الهدف والغاية، أنْ نحفظَ الرأسَ وما وعى، ونحفظَ البطنَ وما حوى، ونتذكرَ الموت والبِلى، فمنْ أدرك ذلك فقد صام، فأحسنَ الصيامَ، وكان خيرَ منْ تبتل لربه وقام» ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ».
إننا أيُّها القراءُ الأعزاءُ يتحتم علينا أنْ نعلمَ أنَّ الصيامَ إذا ما وعيْنا قيمَهُ الإيمانيةَ، وأدركنا حقائقه الأخلاقية ليتبين لنا أنَّ الصيامَ الحقيقيَ هو الذي يرفع صاحبه عند الله في المؤمنين درجته ويُنْتِجُ بين الناسِ في المجتمعاتِ ثمرتَه أدبا واستقامة، فهو حصانةٌ إيمانيَّةٌ وجُنَّةٌ أخلاقيَّةٌ.