العوابي - خليفة المياحي - عندما تستمع إلى أحاديث كبار السن فأنت تستمع إلى تاريخ مليء بالتفاصيل، وتستطيع أن تشاهد خيطا من الزمن يتداعى أمامك، خيط مليء بالأحداث التي تحمل فيها الكثير من العبر والمواعظ وتعرف كم تغيرت هذه الحياة وهي تمر عبر ذلك الخيط الزماني. وفي هذه الزاوية التي نستمع فيها لأحاديث كبار السن لنرقب ذلك الخيط الزماني ونحاول أن نستخلص منهم العبر.. نستمع اليوم إلى حديث الوالد خلف بن سالم بن سليمان الخروصي «82 عاما» وهو من سكان ولاية العوابي. والوالد خلف الخروصي مثال للكفاح، ومثال حقيقي للإنسان العماني المكافح من أجل الحياة، فهو لا يجد راحته إلا في العمل والنشاط الذي عوّد نفسه عليه منذ سنين عمره الأولى، وإلى جانب ذلك فقد عرف بحبه لوطنه ولمجتمعه وكان وما زال منغمسا في عمل الخير والإسهام في خدمة المجتمع، ورغم كبر سنه وانحناء ظهره والظروف الصحية التي تعرض لها ما زال غراسه مستمرًا وزرعه مثمرًا وعطاؤه يتدفق. فبعد أن صارت حركته على الأقدام بطيئة لم يستسلم فاستخدم دراجة كهربائية ليستطيع الاعتماد على نفسه في تحركاته لقضاء شؤونه الشخصية أو لمتابعة العمل في مزرعته التي يحرص على حرثها وزراعتها من مختلف الأشجار، فهو يشرف على كل صغيرة وكبيرة في مزرعته بنفسه، ومع كل هذه الأعمال فإنه لم ينس نصيبه الأخروي فتجده عاكفا على تلاوة القرآن الكريم بشكل مستمر إلى جانب مواظبته على بعض الورود والأذكار. يستذكر الخروصي أنه صام شهر رمضان للمرة الأولى وعمره سبع سنوات، يقول: كان عمري سبع سنوات فقط، وقد وجهني والدي للصوم في ذلك العمر، وكنت أجد صعوبة كبيرة في بداية الأمر لكنني صبرت. وأضاف: توافق صومي في وقت الصيف وفي أوج ارتفاع درجة الحرارة، وكنت أتذكر حين كان والدي في ذلك التوقيت يقوم بطبخ بسور نخلة المبسلي وهو ما يسمى محليّا «التبسيل» حيث كان يقوم بهذا العمل بنفسه في المنزل فكانت توجد «تركبه» مكونة من مرجل واحد، هذه المشاهد ما زالت عالقة في ذهن الوالد خلف الخروصي لا تنمحي. وحول مكونات الإفطار في ذلك الزمن البعيد يقول الوالد خلف: كنا نبدأ بشرب الماء مع التمر واللبن، وكنا أيضا نشرب عصيرا طازجا يصنع محليا يطلق عليه «حار بارد» كان يصنعه والدي بنفسه.. إذ يقوم بعد صلاة الظهر فيضع كمية من تمر نخلة الفرض في أحد «الخروس» الفخارية ثم يضيف إليه كمية من الماء والليمون اليابس فيضعه يتمازج مع بعضه البعض وقبل المغرب يقوم بشخله «تصفيته» حيث تخرج العصارة ممزوجة بالتمر والليمون ويتم تناولها مع الإفطار. وعن البرنامج اليومي أيام شهر رمضان في الماضي يقول الوالد خلف: بعد تناول الإفطار نذهب للمسجد لأداء صلاة المغرب ثم نعود للمنزل ونستكمل تناول الطعام ثم نذهب مرة أخرى للمسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح، ثم نعود فنجتمع مع الجيران ويحضر كل واحد منا قهوته فتكون جلسة ممتعة. وعن وجبة السحور يقول: كنا نتناولها قبل أذان الفجر وهي وجبة عبارة عن «صالونة» باللحم أو السمك مع الخبز، وهذا كان أكثر ما يأكله الناس آنذاك لأن القمح والبر يزرع محليّا وموجود فلم يكن الأرز موجود كما هو الآن بل إنه كان شبه معدوم وإن وجد فيكون سعره غاليا. ويضيف الوالد خلف الذي تدفق بالذكريات: أتذكر أن والدي باع «بهارا» من البسر بمبلع ٣٠٠ قرش فضة «البهار يقدر بـ١٠٠ قلالة والقلالة ٨ كيلوجرامات على الوزن الحالي» ثم اشترى لنا «جونية عيش» من الأرز القديم المسمى «داود خان» وزن «الجونية» يقدر بـ٩ قلات واشتراها بمبلغ ١٠٧ قروش فضة والقرش يساوي ١٢٠ بيسة على الصرف القديم، وهو سعر خيالي ولا يستطيع شراؤه إلا الميسورون فقط. ويكمل الوالد خلف حديثه قائلا: لم نستعمل الأرز من تلك «الجونية» بشكل يومي ولكن على فترات متباعدة أو في حالة زيارة الضيوف. ولم تكن هناك كهرباء في تلك الأزمنة وكان الناس يشعلون «سراج بوسحة» وهو معروف جدًا عند العمانيين. ويتحدث الوالد خلف عن تجمع الناس لقراءة القرآن الكريم حيث يتجمعون في الجامع على هيئة حلق دائرية فتجد المشاركين في التلاوة يتحلقون حول ذلك «السراج» عندما تكون التلاوة في الليل أو الفجر. ويضيف: في فصل الشتاء أتذكر أن غرفة مبنية من الطين كانت بجانب الجامع وخصصت للتدفئة حيث يتم إشعال النار فيها ومن يتوضأ للصلاة وقبل أن يدخل المسجد يدخل يدفئ نفسه هناك. وعن تعلمه يقول كنت أطمح أن أستمر في الدراسة في ولاية نزوى زمن الإمام محمد بن عبدالله الخليلي لكن والدي كان يعتمد عليّ في البيت فلم أستطع مواصله الدراسة، فقط درست لمدة أربعين يوما، وتعلمت خلالها بعضا من العلوم الدينية ومنها تلقين الصبيان وفي العوابي تعلمت على يد المعلمين صالح الخروصي ومحسن بن زهران والمعلمة خولة، والحمد لله ختمت القرآن كاملًا وحفظت منه ما تيسر لي حفظه وما زلت مواظبا على تلاوته بشكل يومي، وكنت أتعلم مع مجموعة من هم في سني وكان التدريس يكلف ٣٠ بيسة في الشهر وأثناء تعليمي في نزوى كنت التقي بالإمام. وعن عمله يقول: قبل عام السبعين عملت في أكثر من مهنة، عملت في التجارة وفي صناعه قطايع الخناجر كما عملت في الحرث والزراعة، ولدي خبرة في تجبير الكسور، ففي ذلك الوقت لم تكن المستشفيات متوفرة وكان اعتماد الناس في حالات الكسر على المجبرين وقد ورثت خبرة التجبير من والدي (رحمه الله). وبعد تولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه- الحكم تم تعييني ناظرًا للطرق بولاية العوابي براتب ٩ ريالات وكنت أرافق الوالي والقاضي في أعمالهم الميدانية للنظر في المواقع التي تتعلق بالطرق وما يعترضها من عراقيل. وعن وضعه الصحي يقول: تعرضت قبل أكثر من عشرين عامًا لوعكة صحية تبين فيما بعد وجود انسداد في الشرايين فأجريت لي عملية جراحية وتم استبدال الشرايين ولله الحمد أحوالي الصحية جيدة مع تناول ما يقارب ١٨ من قرص الحبوب يوميًا وأعاني الآن من عدم القدرة على المشي لذلك استعين الآن بدراجة كهربائية أتنقل خلالها في المزرعة التي أشرف عليها وعلى العمال بنفسي. أما عن الفرق بين الماضي والحاضر فيقول: فرق شاسع وكبير فإن الوقت الذي نعيشه الآن هو عصر ذهبي فيه ما يشتهي الإنسان ويرغب وكل وسائل العيش الرغيد متوفرة بدءًا من المعيشة الأساسية وانتهاء بكل الكماليات التي لم نكن حتى نحلم بها، كان الناس يعيشون في فقر وربما مرت أيام لا يجد فيها بعض الناس ما يأكلونه ولا ما يلبسونه.