د. مريم بنت سعيد العزرية - باحثة شؤون إسلامية - لقد أنزل الله سبحانه شريعته الخالدة لحفظ وحماية عدد من الضروريات التي لا تقوم حياة الأفراد والأمة إلا بها، في ظل مقصدها العام وهو جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وهذه الضروريات ترجع إلى مقاصد كلية متفق عليها ومقطوع بها عند الأمة، وهي خمس تتمثل في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، في حقيقتها جامعة لمصالح العباد ومتضمنة لمقاصد الشريعة وأحكامها كلها. فالشريعة الإسلامية تتمحور حول هذه القضايا الأساسية؛ ولم تنص على حكم كل جزئية على حدة، وإنما أتت بقواعد كلية وعبارات مطلقة تتناول تفريعات كثيرة لا تنحصر، وهي الكليات الخمس؛ فلذا لا من بد توجيه بوصلة الأحكام الشرعية اتجاهها وحث خطاها إلى تحقيقها والحكم عليها وفق مقتضاها. لقد حصر العلماء القدامى الكليات المقاصدية في تلك الخمس، ومستندهم هو تتبع النصوص والاستقراء التام لأحكام الشريعة، فوجدوا أنها تتمحور حول الكليات الخمس، فلا يكاد يخرج حكم من أحكام الشرع عن واحدة منها، إما من جانب الإيجاد لها ابتداءً، وإما بالحفاظ عليها واستدامتها بدفع ما ينقضها ويفسدها، وكلها تدور حول هذه الكليات الخمس أو تفضي من قريب أو بعيد إلى خدمتها ورعايتها. بل إن تلك الكليات الخمس مجمع على اعتبارها في جميع الملل؛ فإن الله تعالى حرم تفويتها وزجر عنها في جميع الملل، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكرات، فإن الشرائع جاءت لإصلاح الخلق وأمورهم. غير أن هناك نصوصا شرعية نبهت بشكل واضح على هذه الكليات، وأجمع آية في هذا الباب قوله تعالى: « ياَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤمِناَتُ يُبَايِعونَكَ عَلَى أَن لَّا يُشرِكنَ بِاللَّهِ شَي‍ئا وَلَا يَسرِقنَ وَلَا يَزنِينَ وَلَا يَقتُلنَ أَولَادَهُنَّ وَلَا يَأتِينَ بِبُهتَن يَفتَرِينَهُ بَينَ أَيدِيهِنَّ وَأَرجُلِهِنَّ وَلَا يَعصِينَكَ فِي مَعرُوف فَبَايِعهُنَّ وَستَغفِر لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِيم» ١٢الممتحنة:12. إن المقصود بحفظ الدين هو حفظ دين الأفراد من أن يدخله ما يفسد اعتقاده وعمله المترتب عليه، وحفظ دين الأمة بدفع كل ما يؤثر على أصول الدين القطعية، ويدخل في ذلك حمايته والذب عنها بإبقاء وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها، كوجوب طلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها. فإن الأحكام الشرعية تؤدي إلى تحقيق مقصد العبودية والخضوع لله؛ لأن الحياة بكل أنشطتها وسيلة لتحقيق مقصد العبودية لله تعالى، قال تعالى:« وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ » الذاريات:56. وهي وسيلة لتحقيق إسلام المسلمين وإظهار مدى تعلقهم بدينهم وتمييز شخصيتهم، زيادة على عقيدتهم الصحيحة وقولهم الصادق وعملهم الصالح. ومن هنا كان حرص النبي على أن يمتاز المسلمون عن غيرهم ببواطنهم وظواهرهم، ولا أدل على ذلك من تعليله أمره ونهيه، في حديث منع التشبه بالكفار بقوله: «خالفوا المشركين». (رواه البخاري ومسلم). وأما حفظ النفس فمعناه حفظ الأرواح من التلف أفرادا وعموما، وذلك بتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبهها، وحفظها عن التلف قبل وقوعه بمقاومة الأمراض السارية كالطاعون ونحوه، وبعد وقوعه بتشريع الحدود كالقصاص وحد الزنى والأروش والديات ونحوها. والنفس التي عنيت الشريعة الإسلامية بحفظها هي النفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، وإن إجازة إزهاقها والاعتداء عليها إن ارتكبت ما يجيزه، فليس من قبيل إلغاء العناية بها في الشرع لكن من قبيل كون مصلحة حفظها عورضت بمصلحة أعظم، فأخذ بأعظم المصلحتين. ومن جانب آخر فالشريعة الإسلامية قد قصدت إلى حفظ النفس الإنسانية من إصابتها بأي ضرر، قال تعالى: «وَلَا تُلقُواْ بِأَيدِيكُم إِلَى لتَّهلُكَةِ» البقرة:195، وعليه فإن الله تبارك وتعالى لا يحرم ما يحرم إلا صيانة لعباده وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات، وقد يبين للعباد ذلك، وقد لا يبين. وذلك لأن الأضرار والمهالك التي تؤذي النفس الإنسانية تعطله عن أداء حقوق الله وحقوق العباد، ومقصد القرآن من تحريم الخبائث هو إصلاح الجسم إصلاحاً يتلاءم مع وظائف الإنسان في هذه الحياة، يمكنه من السعي لها في أحسن الأحوال. وأما حفظ العقل فهو حفظ عقول الناس والأمة من أن يدخل عليها خلل؛ لأنها مناط التكليف ودخوله على العقل مؤد إلى فساد عظيم من عدم انضباط التصرف. ودخول الخلل على عقل الأمة أعظم من دخوله على عقل الفرد؛ لما يؤدي إليه من فساد أعظم. ومنه منع الأفراد عن السكر ونحوه من المفسدات كالحشيشة والأفيون والكوكايين والهيروين، ومنع تفشيها في الأمة، وحث التشريع الكريم على التفكر وطلب العلم والمعرفة مما يغذي العقول ويعينها على القيام بمسؤوليات أصحابها في الحياة. وأما حفظ النسل أو النسب أو العرض فيراد به حفظ النسل من التعطيل؛ لما يؤدي دخول الفساد إليه إلى اضمحلال النوع البشري وانتقاصه في الأمة، وذلك بالحث على النكاح ومنع قطع الأرحام أو إفساد الحمل وقت العلوق. وأما حفظ النسب فيراد به حفظ انتساب النسل إلى أصله؛ وذلك لما يحقق في الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه وكمال جسده وعقله، وتعهده بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية. وهذا مما يترتب عليه انتظام دعامة العائلة في الأمة. ولأجل حفظه شرعت قواعد الزواج وتحريم الزنا وفرض الحد له. وأما حفظ العرض فهو ما يتعلق بحفظ أعراض الناس من الاعتداء عليها، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، ومنه شرع حد القذف واللعان. وأما حفظ المال الذي هي وسيلة معاش الخلق ويحتاجون إليه، ويقصد به حفظ أموال الأمة بتثميرها حتى تكون عدة لها وقوة لبناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها؛ حتى تكون قوية مرهوبة الجانب مرموقة المكانة لا تحتاج إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز حاجتها ويدخلها تحت نير سلطانه. ويكون حفظ المال من العدم بمنع إتلافه بإفساده وإنفاقه في السرف أو بالغلو في إنفاقه في المباحات واللذات لغير منفعة ومصلحة في الدين أو الدنيا، ومن خرج عن ذلك كان مبذرا لماله. وقد حاول بعض العلماء المعاصرين زيادة كليات أخرى على هذه الكليات الخمس انطلاقا من القيم الاجتماعية المعاصرة كالحرية والعدالة والمساواة ونحوها، وفي الحقيقة هذه الأصول الكلية الخمسة تتسع لما يراد إضافته لها بالاستقلال؛ إذ هي أصول مركزية ثابتة، تتسع لكل جديد في الحياة البشرية لأنها تبتغي تحقيق مصالح الخلق، ولكن تبقى الحاجة ماسة إلى فهم تلك الكليات الخمس بمفهومها الواسع وعدم تحجيمها في ما ذكره القدامى من جزئيات وتفريعات في ضوء عصرهم وظروف حياتهم.