حمود بن عامر الصوافي -
لما انهار سد مأرب في اليمن، تفرقت كثير من قبائل اليمن إلى أمصار شتى وأماكن مختلفة، وبلدان متباينة، فمنهم من ذهب صوب العراق ومنهم قصد عمان كمالك بن فهم وأولاده وكثير من قبيلة الأزد.
وكان المسيطر على عمان والمتحكم في مفاصلها الفرس لذلك لم يرضوا مجيء مالك بن فهم بقوته وثقله وعدته وجيشه أرض عمان وحاولوا تهديده وإبعاده عن عمان بشتى الطرق لكنه استأسد وتدرب وأعد العدة لمعركة لا ما بعدها.
فجالت الخيل بين مالك والفرس، وانقشع غبار المعركة بعد معارك دامية ووقعات مختلفة عن هزيمته ساحقة لجند الفرس فاستطاع مالك أن يحكم عمان من أقصاها إلى أقصاها وينظمها ويحسن سياستها.
وقد ساد في عمان وحكمها سنين عديدة وقد جعل لأولاده نبوات يحرسونه ويشرفون على الجند، فكان يحرسه كل ليلة واحد منهم إلا أن الحسد قد دب في بعض أولاده على أخيهم الصغير غير الشقيق لرؤيتهم اهتمام أبيهم إياه، وتعليمه الرمي وركوب الخيل منذ نعومة أظفاره فحاولوا الوشاية عليه وإلصاق التهم أنه لا يلتزم بالحراسة وإذا جن الليل يعتزل الفرسان ويتغافل ويتهاون في الحراسة ويتثاقل بالنوم.
فأراد مالك أن يقطع الشك باليقين، ويتأكد بنفسه من الخبر، ويقيم الحجة على ابنه عن كثب.
فلما توجه مالك إلى مكان الحراسة متلثما متخفيا؛ ليرى صدق أولاده من كذبهم إلا أنه تفاجأ فور وصوله بالسهم يصيب فؤاده ويقضي عليه بعد عدة أيام وليال، فقد ورد في كتب التاريخ: «قرر مالك مراقبة ابنه في نوبته، وقد كان سليمة على رأس الفرسان يحرس إلى أن جنّهم الليل، فبينما هو كذلك إذ أقبل مالك في جوف الليل متخفيًا لينظر فعل سليمة، فانتبه سليمة من صهيل خيله، وهي تصهل بقدوم دخيل، ففوّق سهمه في كبد قوسه... فقال مالك قبيل موته جراء تلك الرمية:
فَيا عجبًا لِمَنْ رَبَّيتُ طِفْلًا أُلقّمُهُ بِأَطْرَافِ البَنانِ
أُعلّمهُ الرِّمايةَ ُكلَّ يَوْمٍ
فَلمَّا اسْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافِي
فَلمَّا قَالَ قَافِيةً هَجَانِي
أُعَلّمُهُ الفُتوَّةَ كُلَّ وَقْتٍ
فَلَمَّا طَرَّ شَارِبُهُ جَفَانِي
جَـَزانِي لَا جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا
سُلَيْمَةَ إِنَّهُ شَرًا جَزَانِي
«المشهور في البيت الأَوَّل (فلمّـا اشْتَدَّ) من الاشْتِدادِ والشِّدَّة، بمَعنَى: القُوَّةِ، يُقَالُ اشْتَدَّ الشَّيءُ: أيْ قَوِيَ وصَلُبَ، وشَدَّ عَضُدَه: قَـوَّاه، غير أن الرواية التي ترد في معظم كتب التراث- (اسْتَـدَّ) بِالسَّينِ المهمَلَة، مِن السَّدادِ بمعنَى: الاستِقَامة، والمرادُ: السَّدادُ في المرمَى».
فماذا استفاد أبناء مالك في الوشاية على أخيهم إلا فقد أبيهم وتصدع البيت وتفرق الأبناء فقد ألجأت هذه الحادثة سليمة إلى الفرار من عمان والتوجه إلى فارس حيث هناك ظهر نبوغه هذا الفتى ومقدرته الفائقة على إدارة الدول والتغلب على الظلمة والفتك بالجبابرة فقد استطاع بمعاونة أهل فارس من القضاء على حاكمهم الجائر واعتلاء منصب الدولة فلله دره فما حسده إخوته إلا لتميزه ودقة معرفة مالك بأبنائه وكشفه عن معدنهم الصافي وعبقريتهم الفذة وقيادتهم الرائدة.