اعداد :حمادة السعيد -
هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها، فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.
ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي حرفة الزراعة.
لقد ورد في القرآن الكريم بعضُ الآيات التي وجهت الأنظار إلى هذه الحرفة وإلى أهميتها، منها قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. الأنعام: 99.
وقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. يس: 33- 34، وقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. النحل: 10- 11، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. الأنعام141.
وقوله تعالى لافتا وموجها إلى نعمة من نعم الله تبارك وتعالى في سورة عبس: (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم). الآيات: من 24 إلى 32.
قال ابن كثير في تفسيره حول آيات سورة يس المتقدمة: «ومن المظاهر الدالة على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى، الأرض الميتة» أي كانت هامدة ميتة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: (أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون)، أي جعلنا رزقا لهم ولأنعامهم، وقال: (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمرة وما عملته أيديهم)، أي جعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة يحتاجون إليها، ولما أمتن الله على خلقه بإيجاد الزروع لهم عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها، وما ذلك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا بكدهم ولا بحولهم وقوتهم فتكون (ما) في قوله: (وما عملته أيديهم) للنفي، ولهذا قال تعالى: (أفلا تشكرون)، أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم.
وجاءت أحاديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لتبين للناس منافع الزراعة وتحثهم على هذه الحرفة ففيما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل».
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في هذا الحديث على الزراعة والغرس في موقف تكاد تنتهي الحياة فيه كذلك يبين رسول الله صلى الله عليه ويسلم أجر من يعمل بالزراعة فقال فيما أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة».
وفي رواية لمسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق له منه صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة» يرزؤه: ينقصه.
ومما يبقى للعبد من أجر بعد موته سبعة أمور ومنها الزراعة كما ورد ذلك في مسند البزار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته». وحينما أمر صلى الله عليه وسلم وبين أجر الغارس أو الزارع نهى عن ترك الزراعة وجعل الأرض بورا لا ينتفع منها فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإنْ أَبَى فليمسك أرضه».
وطبق الصحابة الكرام هذه التعاليم النبوية التي حثتهم على الزراعة، فقد ورد في كتاب نزهة المجالس ومنتخب النفائس لعبد الرحمن الصفوري: أن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - سُئل: أتغرس بعد الكبر؟ فقال: لأنْ توافيني السَّاعة وأنا من المصلحين خير من أن توافيني وأنا من المفسدين، وها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقدم القروض الحسنة لمن كان له أرض ليعينه على زراعتها فيروي ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى واليه عبدالحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: «أنظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه فإنا لا نحتاجهم لعام ولا لعامين».
فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.