إعـــــــــداد: حمادة السعيد -
هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها، فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.
ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي البحارة وقد جاءت الإشارة إليها ضمنيا في قوله تعالى في سورة الكهف «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» (71) وقوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا» (79). وحديث القرآن عن مهنة البحارة جاء ضمن حديث القرآن عن قصة تعليمية وتربوية دارت أحداثها بين كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام والخضر عليه السلام وقد بيّن القرآن الكريم في هذه القصة أن هؤلاء البحارة كانوا رحماء في عملهم يقتاتون من كدهم وتعبهم في نقل الركاب والبضائع ولكنهم كانوا على وشك التعرض لظلم كبير من قبل الملك الذين كان يحكم بلدتهم فأرسل الله موسى والخضر عليهما السلام لإنقاذ سفينتهم التي هي مصدر رزقهم ومعيشتهم وهذا هو حال كل من يتقي الله في مهنته ما دام يأكل حلالا ويعمل حلالا فإن الله تبارك وتعالى يتولى حمايته ويسخر له من يقف بجواره.
كما تعرض القرآن الكريم للمخاطر التي يتعرض لها هؤلاء البحارة في عملهم حيث قال تعالى في سورة يونس «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (22). وكذلك في سورة إبراهيم «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ» (32). وقوله «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (14) سورة النحل.
جاء في «التفسير القرآني للقرآن» لعبدالكريم يونس الخطيب «بتصرف»:«فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» .. وهكذا تبدأ الجولة الأولى بين موسى والخضر عليهما السلام بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ سلطان على نفسه.. فيصرخ في وجه أستاذه قائلا:«أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» !! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء .. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر..ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، في رفق ولطف..فلا يزيد على أن يقول له:«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟». وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا في أدب كريم:«لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» .. أي هذه هفوة فتجاوز لي عنها.. وخذني برفق، ولا تشتدّ عليّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه عليّ من علمك..كان لا بدّ للمعلّم أن يكشف لتلميذه عن خفايا هذه التجربة المثيرة، التي أراه منها ظاهرا لا يستقيم على أي منطق، ولا يتفق مع أي عاقل، ولا يلتقى مع تقدير أي إنسان سليم الإدراك.. وأن موسى لفي حيرة بالغة من أمر صاحبه هذا، الذي جاءه ليطلب العلم عنده، بتوجيه من ربّه..وحيا، أو إلهاما! وقد فعل المعلم ما تقضى به الحكمة، ويعتدل به ميزان التربية السليمة- فلم يدع تلميذه نهبا للوساوس والشكوك، بل إنه ما كاد يؤذنه بالفراق، وبإنهاء هذه التجربة التي أدخله فيها، حتى أخذ يشرح له حقيقة الموقف، ويكشف له عن الوجه الخفيّ من كل حدث من تلك الأحداث فكانت قولته له:
«هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» مشفوعة بقوله: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً». هو كما يقول العبد الصالح:«أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً». هكذا الأمر إذن؟ إنه كما يبدو الآن عمل من أعمال البرّ والرحمة لأصحاب السفينة.. وقد كان يرى من قبل عدوانا عليهم، وظلما صارخا لهم..إن هذا الخرق الذي أحدثه العبد الصالح في السفينة، قد جعلها سفينة معطوبة، معيبة، لا تصلح للغرض الذي من أجله كان الملك يستولي على السفن، وينتزعها من يد أصحابها، قهرا وقسرا.. وبهذا تخطّت عين الملك هذه السفينة، حين رآها على تلك الحال، وبهذا أيضا سلمت السفينة من هذا العدوان، وبقيت في أيدى أصحابها المساكين، الذين يعملون عليها، ويرزقون منها.
جاء في موجز دائرة المعارف الإسلامية ترجمة لعدد من المستشرقين إعداد وتحرير إبراهيم زكي خورشيد، أحمد الشنتناوي، عبدالحميد يونس كلاما مفاده أن كلمة السفينة أخص من كلمة مركب التي تدل على أداة النقل بأوسع معانيه. وفي اللغة العربية عدد كبير جدًا من الألفاظ الدالة على أنواع السفن المختلفة، بل إن الكلمة الشائعة «سفينة» تدل على أن السفر برًا كان هو المفضل. وسرعان ما أحس القوم في الإسلام بالفهم لها، ثم لم تصبح فكرة السفينة شيئا غريبا على العرب. والأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمسألة التي كثر حولها الجدل وهي: هل كان العرب حقًا في صدر الإسلام على دراية بالبحر وبالملاحة؟ والشيء الذي أثار هذه المسألة في بادئ الأمر هي الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم عن البحر، فكيف تأتت للنبي محمد صلى اللَّه عليه وسلم هذه الصور الواضحة عن البحر وعواصفه ومن أين استقاها؟ ذلك أنها من أزهى الصور الواردة في القرآن الكريم وأن أوصاف البحر كانت من الأمور الغريبة بوجه عام على الشعر العربي، وخاصة الشعر الجاهلي، وأن سيرة النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا تدل على أنه قام بأي رحلة بحرية حتى وإن كانت بالقرب من الشاطئ». كما أنها لا تدلنا على أنه زار أي ثغر من الثغور المعروفة في ذلك الوقت مثل جدة أو شُعَيْبَة أو غزة. وأن ركوب البحر كان عظيم الأهمية على الأقل بالنسبة للبيئات التجارية التي كان ينتسب إليها محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وإلا فما كان يتحدث النبي - كما يرى المستشرقون - فيما لا يقل عن أربعين آية عن فضل اللَّه في تسخير البحر للناس.ولم يقف المستشرق فرانكل عند هذا الحد بل تحدث عن حركة «التجارة المنتظمة» مع الحبشة التي أشارت إليها الروايات وأن الإشارات الكثيرة في القرآن الكريم والسيرة إلى الملاحة تنم بأن العرب كانوا على دراية وثيقة بالبحر، إلا أنه لم يرد قط أن أحدًا من عشيرة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أو بدويًا من تهامة كان بحارًا، فقد تركت هذه المهنة لغيرهم على شاطئ البحر الأحمر.
وفي إشارات القرآن وحديثه عن هذه المهنة إنما هو دعوة صريحة لتعلم هذه المهنة وفنونها لكثرة ما فيها من خير للبشرية سواء بنقل الركاب والبضائع أو عن طريق الصيد بل إن القرآن الكريم وضع وسيلة سهلة وميسرة لنجاة كل من يركب سفينة من أن يتعرض للغرق فعَنْ علي كرّم الله وجه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا في البحر أن يقولوا: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة هود وقوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} سورة الزمر. فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.