جعلها الله ميقاتا زمنيا لنزول القرآن وكان النبي الكريم يجـتهد فيها ما لا يجـتهد في غيرها -
من يقومها إيمانا واحـتسابا سيسـتوحي المعاني الكبيرة التي اشـتملت عليها ويعيش روحانيتها ويدرك حقيقتها وعظيم أثرها -
تدعو خطبة الجمعة لهذا اليوم عبادة الاعتكاف في العشر الأواخر من الشهر الفضيل التماسا لليلة المباركة وهي ليلة القدر، مبينة أن نبينا الكريم كان حريصا عليها فقد اعتكف العشر الأواخر بعدما فرض عليه صيام شهر رمضان إلى أن لقي ربه، طمعا في ثواب الله ونيـل رحمته، والتماسا لليلة القدر المباركة وكان يجـتهد فيها ما لا يجـتهد في غيرها فقد جعلها الله ميقاتا زمنيا لنزول القرآن، وهي ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ودلالته فمن قامها صلاة وعبادة، وقرآنا وذكرا؛ حاز خيرا عظيما، ونال فضلا عميما.. وهنا نص الخطبة كاملا والتي جاءت تحت عنوان: “ لـيلة القدر خـير من ألـف شـهر”:
الحمد لله الذي أعظم لليلة القدر قدرا ومنزلا، وجعلها لنزول القرآن ميقاتا ومحفلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من عباده المسارعة في الخيرات، واسـتغلال الأعمار والأوقات. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، سيد الراكعين الساجدين، وخير القائمين المعتكفين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، فقد أمركم الله بالتقوى، لتفوزوا بسعادة الدنيا، ونعيم العقبى، يقول ربكم سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). واعـلموا - أيها المؤمنون - أن شهركم الكريم هذا أيامه ولياليه مباركة عظيمة، نفحات بركاتها لا تعد، وتتابع خيراتها لا يحد، ومع ذلك فهي معدودة ساعاتها، سريع جري أوقاتها، فها نحن أوشكنا أن ننهي ثلثي الشهر، وندخل في الأواخر العشر. فهنيئا لمن جد واجـتهد في الأيام القليلة الماضية، هنيئا لأهـل الأذكار في الأسحار، هنيئا لمن اعـتكف على القرآن في رمضان، هنيئا للصائمين المخلصين، والمنفقين المتصدقين، لكن يجدر بهؤلاء المجتهدين أن ينتبهوا من أن يدفعهم علمهم بالاجـتهاد فيما مضى إلى التقصير فيما هو آت؛ فإن ما بقي من الشهر ذو شأن عظيم، وفضـل عميم، فليجدوا وليجـتهدوا، وليجعلوا أواخر الشهر خيرا من أوائله.
عباد الله:
إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يجـتهد في العشر الأواخر ما لا يجـتهد في غيرها، وهو خير الخلق، وحبيب الحق، تقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيـقظ أهـله))، (شد مئزره) كناية عن الجد والاجـتهاد في العبادة، (وأحيا ليله) عبادة وذكرا وتلاوة، (وأيـقظ أهـله) لينالوا حظهم من الخير الذي ينال. إنه ليجدر بنا أن نجعل من هدي رسول الله لنا منهجا ونحن نسـتقبل العشر الأواخر، لنشد مئزر الجد، ونشمر عن ساعد الاجتهاد، ونجعل ليالينا حية بالذكر والقرآن، ونحث أهـلنا وأبناءنا على اغتنام الخيرات والبركات. ومما يعين المرء على تحـقيق ذلك - أيها الكرام - التنظيم والتخطيط، فمن دونهما توشك الهمم أن تغور، والجهد أن يتبدد، فجميل أن ينظم المرء وقته وفق خطة جيدة، يهـتم فيها بالمهمات، ويراعي الالتزامات، ويحدد فيها الأهداف، ويختار السبل والوسائل، ويعين أهـله وأبناءه على أن يصـنعوا مثل ما صنع، فيحمدوا جميعا بعد الشهر صنيعهم، ويفوزوا بمغفرة الله ورضوانه.
أيها الصائمون القائمون:
إن من أعظم ما يحث المسلم على الاجـتهاد في هذه العشر معرفة أن الله تعالى قد أودعها ليلة عظيمة مباركة، سماها بليلة القدر، ليلة الشأن والقدر الرفيع، ليلة تقدر فيها الأمور، ويكثر نزول الملائكة فيها بشآبيب الرحمات، ونفحات البركات، وهي الليلة التي جعلها الله ميقاتا زمنيا لنزول القرآن، فتنزل فيها غيث الوحي الذي أحيا أرض البشرية القاحلة، ونفث الروح في جسدها البالي، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعـلى، ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، ودلالته، وآثاره، يقول رب العزة والجلال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ،أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وجاء في آيات سورة القدر قوله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، إنها آيات تشع سناء، وتفيض أنوارا، ، نور إنزال الله لكتاب النور والهدى، ونور الملائكة والروح وهم يتنزلون بين السماء والأرض، فما أعظمها من ليلة. وفي قول الحق سبحانه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، إشارة إلى عظمتها ورفيع منزلتها، تلك العظمة التي تكاد تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري، عظمة لما فيها من الأنوار والبركات، وعظمة لما حوت من الخيرات والرحمات، وعظمة لاخـتيار الله لها منزلا للقرآن العظيم، ومما يزيد الليلة المباركة تعظيما وصـف الله لها بأنها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، والعدد هنا لا يفيد التحديد، وإنما يفيد التعظيم والتكثير، إنها ليلة خير من آلاف الشهور والأعوام في حياة البشر، فأكرم بها من ليلة مباركة.
معاشر المؤمنين:
تمر هذه الليلة العظيمة على المسلمين في هذا الشهر من كل عام، غير أن القلة من يشمر لنيـل بركاتها، والخواص من يتسابقون في مضمارها، ولقد كان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أشد الناس حرصا على الفوز بنفحاتها الطيبة، وخيراتها العظيمة، وهو القائل - بأبي وأمي - حاثا على اغـتنامها: ((فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر))، فقد أخفى الله تعالى تحديد وقتها ليجـتهد الراغبون تقربا وعبادة، ويجد المخلصون طاعة وإنابة. يقول خير الخلق صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الليلة المباركة: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحـتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه))، فمن قامها صلاة وعبادة، وقرآنا وذكرا؛ حاز خيرا عظيما، ونال فضلا عميما، ولا يكفي المرء مجرد القيام الظاهري الشكلي، بل لا بد أن يكون قيامه إيمانا بالله وتصديقا لما أعده من الثواب العظيم، وإخلاصا لله سبحانه واحـتسابا، والمرء الذي يقوم هذه الليلة بإيمان واحـتساب سيسـتوحي المعاني الكبيرة التي اشـتملت عليها هذه الليلة، ويعيش روحانيتها، ويتذوق حلاوتها، ويدرك حقيقتها وعظيم أثرها. ولن يعيش ويدرك ذلك الأثر إلا من قامها ذلك القيام، فإن أثرها المتجدد عبر القرون هو أثر معنوي لا تدركه الماديات، وشعوري لا تحـتويه النظريات، فمن قامها بنقاء قلب وخالص نية؛ وجد منها أثرا وتأثيرا، ومن حرم فضـلها وقيامها فقد حرم خيرا عظيما، وربما لا يدرك في نفسه حقيقة ذلك الحرمان لغفلته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن حرم خير هذه الليلة المباركة: ((من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم)). فشمروا - بارك الله فيكم - عن سواعد الجد، واشحذوا الهمم، فنسمات العشر قد هبت، وليلة القدر للمخلصين قد أعدت، وربكم يرغـبكم في المسارعة للخيرات، واغتنام الدقائق والساعات، لتزكو نفوسكم، وتطهر قلوبكم، وتسمو أرواحكم، وترتقي أخلاقكم، وتنالوا منه سبحانه مغفرة ورحمة، وثوابا وأجرا، يقول عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
*** *** ***
الحمد لله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحـبه ومن والاه.
أما بعد، فاعـلموا - عباد الله - أن نبيكم الكريم صلى الله عليه وسلم كان حريصا في العشر الأواخر المباركة على عبادة عظيمة منزلتها، رفيع قدرها، إنها عبادة الاعـتكاف، فقد اعتكف العشر الأواخر بعدما فرض عليه صيام شهر رمضان إلى أن لقي ربه، طمعا في ثواب الله ونيـل رحمته، والتماسا لليلة القدر المباركة، بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم اعـتكف في بادئ الأمر قبـل العشر التماسا لهذه الليلة، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعـتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعـتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرون من رمضان، وهي التي يخرج فيها من اعـتكافه غدوتها قال: ((من اعـتكف معي فليعـتكف في العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيت أني أسجد في غدوتها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر)). فما أعظم أن يقتدي المسلم بنبيه الكريم؛ فيعـتكف بعض أيام العشر ولياليها، إن لم يسـتطع الاعـتكاف في جميعها، فثم ميدان يتسابق فيه الصالحون، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، وأجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.
اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.
اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).