حمود بن عامر الصوافي -
حين يبلغ الوفاء حدا لا يمكن تصوره تنتاب الإنسان حالة عارمة من الدهشة والحيرة والإعجاب، يتساءل قائلا: يا ترى ممن خلق هؤلاء الرجال؟ وهل يمكن أن تتأصل هذه المبادئ في نفوسنا ونفوس أبنائنا؟ وهل يوجد شبيه بأولئك الكبار في الوفاء في عالم اليوم؟
نعم لا يعدم الزمن منهم مهما ساءت البشرية وانتشر فيها الطمع وكثر الجشع، يظل من الأجيال من يضرب أروع الأمثال؛ فيضحي بنفسه وولده وكل ما يملك من مال وضياع ودور من أجل بقاء حياة آخرين والاستمرار على المبدأ.
بل أحيانا نجد أناسا يضحون بأنفسهم مقابل من أساء إليهم وقد توجد مخارج للخروج من الأزمة والابتعاد عن الورطة بدفع العوض والفداء بالمال إلا أن بعض الأوفياء لا يرتضون إلا أعلى درجات الأمانة فيذهب روحه أو أحد أهله ضحية سبيل بقاء الوفاء.
وقد نال أمثال هؤلاء من الكرامة الشيء الكثير، وصاروا مضربا للأمثال في كل مكان وزمان، حتى ليقال عند كل حادثة شبيهة أو عند أي حدث يرجى أن يكون مثله: أوفى من السموأل.
وقد فخر الناس بالسموأل، وأعجبوا بفعاله، وحاولوا الاقتداء به عند الملمات وحدوث أمثال هذه الواقعات، والعرب عموما دأبوا على تكريم أبطالهم، وتخليد ذكرهم بالحكم والأمثال؛ فقيل أحلم من الأحنف وأوفى من السموأل وأكرم من حاتم ...الخ
وما ذلك إلا لأنهم ضربوا أروع الأمثلة وأجمل الصفات وأكمل المعاني فيما اشتهروا به فهل سمعتم بحادثة السموأل الذي ضحى بابنه مقابل بقاء العهد والمحافظة على الأمانة التي سلمه إياها امرؤ القيس.
فلم يقل مات صاحبها فلماذا أضحي بابني في سبيل رجل مضى؟ وما أدراني أن أهله سيطالبونني بأمانة أبيهم؟ ألا يمكن أن أضمنها وأتجنب الفجيعة؟ لكنها الأمانة كانت عند السموأل أغلى من أي غال، وأكرم من أي كرامة فقد أراد أن يرسلها إلى مستحقيها ولم يرد أن يخون من وثق به أو يأخذ بالرخصة كالفداء أو التعويض فلله دره ودر من سار على نهجه في زمان ازداد الطمع مع ازدياد الماديات وشيوع الخيانة والكذب وقد قال الأعشى في السموأل شعرًا جميلًا يمدح فيه إخلاصه ووفاءه، ويدعو إلى الاقتداء به قائلا:
كُنْ كَالسَّمَوْألِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ ** فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
بِالأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ ** حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
فَسَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ ** قُلْ مَا بَدَا لَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
فَقَالَ ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا** فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخَتَارِ
فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ ** اقْتُلْ أَسِيرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
وللسموأل من الخصال الكريمة الكثير فقد برزت في فعاله كما مر في قصة وفائه وظهرت أيضا في شعره ومعاني كلماته التي لا تعرف الميوعة ولا الليونة بل كان ذا خلق عذب وخصالا حميدة لم تعرف سوء الخلق ولا الأحقاد كما أنها لا ترضى بالضيم ولا الهوان فقد كان جادا جلدا لا يخاف الموت ولا يهابه بل يحب ركوب أمواجه والاتجاه نحوه طمعا في العزة والكرامة والنخوة والشهامة، فيقول في ذلك.
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ
سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ