اعداد :حمادة السعيد -
هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها؛ فلقد حثّ الإسلام على العمل أيّما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفًا وفخرًا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.
ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحًا أو تلميحًا إلى أمر ما، فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الصناعات التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته الصناعة المدنية والعسكرية.
يقول الباحث أنس محمد قصار عن تحدث القرآن الكريم عن عدد من الحرف والصناعات الحربية والمدنية التي فيها نفع وخير للبشرية حيث يقول تعالى :(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) الحديد: 25. فقوله: (فيه بأس شديد) إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: (ومنافع للناس) إشارة إلى الصناعات المدنية. وأخبر عن داود عليه السلام فقال: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) سبأ: 10، 11. وقال أيضًا: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) الأنبياء: 80. وقال أيضًا: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) سبأ: 12، 13.
وكلها إشارات ضمنية لتعلم المهن التي تساعد على قوة المسلمين ومجابهة أعدائهم والدفاع عن دينهم وأوطانهم ومقدراتهم وهي تطبيق عملي لقوله تعالى في سورة الأنفال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)).
جاء في «التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج» للدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خلقناه وأخرجناه من المعادن. فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة والمباني الضخمة ونحو ذلك، والبأس: القوة. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علم مشاهدة وظهور في الواقع الحاصل. مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ من ينصر دينه وينصر رسله باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد وغيره في مجاهدة الكفار الأعداء. بِالْغَيْبِ غائبا عنهم في الدنيا، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه. عَزِيزٌ لا حاجة له إلى نصرة عباده، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وينالوا ثواب الامتثال فيه. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي وخلقنا الحديد مع المعادن، وعلّمنا الناس صنعته، وجعلناه رادعًا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ففيه قوة رادعة، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير من حاجاتهم ومعايشهم، كأدوات الطعام ومرافق المنازل وإقامة المباني والعمارات، ومرافق الحياة الاقتصادية وآلات الزراعة، وأدوات الصناعة السلمية والحربية، الخفيفة والثقيلة من آلات وأسلحة وقطارات وبواخر وطائرات وسيارات وغيرها. فكلمة الحديد إشارة إلى القوة الرادعة لتنفيذ أحكام الشريعة بين المسلمين ومن يتعايش معهم في داخل الدولة، ولجهاد الأعداء الذين يعتدون على حرمات الدين وبلاد الإسلام ويعرقلون انتشاره في العالم.
وكلها إشارات لتعلم الصناعات الثقيلة عسكرية ومدنية من أجل المحافظة على البلاد ومقدراتها.
وجاء في «التفسير القرآني للقرآن»: لعبدالكريم الخطيب: وطبيعي أن مجتمعا كهذا المجتمع في الامتداد والسّعة، لا يمكن أن يكون أعزل من السلاح، مجرّدا من القوة.. فإن طبيعة الحياة تأبى أن يعيش الضأن مع الذئاب.. بل لا بد أن يكون هناك توازن في القوى، وإلّا، فالويل للضعيف! إن المجتمع الإسلامي -كأي مجتمع في الحياة- له ذاتيته المتميزة، وله وجهته وفلسفته في الحياة.. وطبيعي أن تقوم في ظلّ هذه المعاني عصبية، هي التي تجتمع عليها الأمم والشعوب، وتقيم منها وحدة مميزة في مشاعرها، ومنازع أفكارها، ومتجه سلوكها.. كما كان لا بد أيضا أن يتعصب على هذه الأمم وتلك الشعوب أعداء يخافون قوتها، أو يطمعون في ضعفها، ومن هنا يكون الصراع الذي لا بد منه في الحياة، والذي لا بد له من قوة، ولا بد لهذه القوة من سيف، بل ومن سيوف! وإن اليوم الذي تخلّى فيه المسلمون عن القوة، كان هو اليوم الذي فيه مصرعهم، بأيدي من يملكون القوة..ثم لم يكن للمسلمين من قوة يستندون إليها إلا الإسلام، الذي منحهم الإيمان، والصبر، والعزم، وعمّر قلوبهم باليقين بأن شاطئ النجاة قريب منهم، إن هم تمسّكوا بدينهم، وقاموا على شريعته، وأخذوا بهديه، والتمسوا أسباب القوة المادية التي أمرهم الله بها في قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» إلى جانب القوة الروحية التي عمّر الإسلام قلوبهم بها.. وتخويف العدو وإرهابه، بما يرى في جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها في تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها، على حين أنها إذ تكشف عن بعض قوتها، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية، أشد أثرا، وأقوى فتكا، من هذا الذي عرف الناس أمره، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية، التي لا تظهر إلا عند الحرب!!.
وفي قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»، أمر باتخاذ القوة، والعمل على بنائها، والتوسل إليها بوسائلها، ومن أهم تلك الوسائل «الخيل» .. إذ كانت في هذا الوقت أقوى مظهر من مظاهر القوة والفروسية.. فحيث كانت الخيل، وكان فرسانها، كانت القوة والمنعة.. وهذا يعنى كذلك أن الإعداد للحرب ليس لإشباع شهوة الحرب، وإنما هو لإرهاب العدوّ أولا، حتى ينزجر، ولا تحدّثه نفسه بالحرب حين يرى القوّة الراصدة له. ومن هنا يرى أن الإسلام دين سلام، يعدّ للحرب، حتى تجتمع له القوة الممكنة له من النصر والغلب، ولكنه لا يبدأ الحرب، ولا يسعى إليها.
فهذا هو هدي نبينا الذي دعا إلى تعلم الصناعات والحرف التي تحمى بلاد المسلمين.