د. مريم بنت سعيد العزرية - باحثة شؤون إسلامية - إن واقعية الشريعة الإسلامية من أهم خصائصها التي تميزها، ولها أثر كبير على بناء الأحكام الشرعية فيها؛ إذ لم تغفل عن فطرة الإنسان وتكوينه في كل ما أحلت وحرمت، ولم تهمل واقع عيشه في كل ما شرعته من أنظمة وقوانين للفرد والأسرة والمجتمع والدولة والإنسانية. ومن دلائل الواقعية في التشريع الإسلامي نزول القرآن منجما في مدة تقارب ثلاثا وعشرين سنة، مقترنا بالواقع والأحداث في كثير من آياته، حيث تتنزل حلا لمشكلة أو جوابا على سؤال أو بيانا لحكم؛ مراعاة لطبائع البشر وأحوالهم والتدرج بالمجتمع في مراحل التغيير. وفي تمايز طبيعة الخطابين المكي والمدني تطبيق عملي لمراعاة الواقع والبعد المكاني في تنزيل الأحكام. وتتمثل الواقعية في الإسلام في ما جاءت به مختلف تشريعاته وأحكامه، فمثلا في نظام الأسرة شرع الزواج مراعاة للفطرة الإنسانية في حب الإنسان للولد ورغبته في إشباع حاجاته، وقد وزع الأدوار كذلك وفق طبيعة كل من الرجل والمرأة وخصائصهما البيولوجية والنفسية. وقد كان منهج النبي المثل الرائع في تطبيق مبدأ اعتبار الواقع من خلال أسلوبه في دعوتهم من خلال فهمه لواقع الجاهلية واستيعابه لنفسياتهم وعوائدهم وعوائق تقبلهم لدين الله. وعلى هذا النهج جرى تشريع الأحكام العملية في السنة النبوية، وهكذا كان فعل الصحابة والسلف الصالح ؛ إذ كانوا لا يحكمون في مسألة أو حادثة حتى يفهمونها فهما دقيقا ويعرفون ملابساتها وظروفها. ومن هنا يتقرر أن إدراك الواقع ضروري في الفهم العميق للحوادث لأجل استنباط الحكم الشرعي السليم الملائم لمقاصد الشريعة، وأن مراعاته لها أهمية كبيرة في تنزيل الأحكام؛ إذ إنه المحل الذي سينزل عليه الحكم، وهذا يتأكد في العصر الحالي، حيث تتطور العلوم والفنون، وتستجد للناس نوازل ومشكلات في شتى مجالات الحياة، تتداخل فيها ملابسات وظروف كثيرة، تحتاج لنظر عميق وفهم دقيق لواقعها الذي قد يكون متغيرا يتأثر بظروف واعتبارات كثيرة. وكلما كان فهم الواقعة في إطارها الواقعي أقرب للحقيقة والواقع كان تطبيق الأحكام أقرب للصواب، وتحقيق مقاصدها آكد وأعمق. ومن أجل ذلك اعتنى الشرع الحكيم بالإرشاد إلى وسائل إدراك الوقائع وفهمها، ووضع أصولا وقواعد ضابطة تضمن سلامة فهم الوقائع وتنزيل الأحكام وتحقيق مقاصدها. وفي هذا الإطار قرر العلماء وجوب تنزيل الحكم على الواقع قبل الحكم به من خلال تحقيق مناطه؛ وذلك لأن الحكم الشرعي ليس مفهوما ذهنيا مجردا عن حياة الناس ووقائعهم، فلا مناص بعد التوصل إليه من خلال الأدلة الشرعية أن يتم النظر في كيفية تنزيله في الواقع على مقتضى مقصود الشرع منه، بما يستلزم من اعتبار مناطاته المتغيرة سواءً في جانب الفعل نفسه أو المكلف. ومن خلال تتبع مناهج الأصوليين والفقهاء في الاجتهاد يظهر مدى حرصهم على تحقيق مناط الحكم قبل تنزيله في الواقع وأنها كانت عملية مؤطرة بقواعد وضوابط تحفظها من الانحراف عن جادة الصواب وتضمن تنزيلها وفق غاياتها ومقاصدها. ويتجلى هذا المعنى بوضوح وبصورة أشمل عند التأمل في عموم أحكام الشريعة، فتجد أن غالبية الأحكام تعم كل المكلفين على اختلاف أجناسهم، كأركان الإيمان وأركان الإسلام وشعائره الظاهرة، إلا أن هنالك مجموعة من الأحكام تختلف درجة طلبها بحسب اختلاف أحواله المكلفين وتنوع خصائصهم وقدراتهم واعتبار ما يعتري كل منهم من قيود وعوارض وظروف تستلزم العدول عن الوضع الأصلي العام للحكم المجرد إلى ما يتناسب مع الوضع الجديد للمكلف. وليس اشتراط توافر الأهلية في المكلف من ذلك ببعيد ويعتبر من أهم مظاهر واقعية التشريع الإسلامي، فالأهلية هي كمال قوة المكلف في بدنه وعقله ليكون محلا صالحا لممارسة الأعمال الشرعية. وقد تطرأ على الأهلية عوارض تزيلها أو تمنعها من إبقائها على حالها، فتؤثر في مدى صلاحية المكلف لصدور الأفعال الشرعية منه، فيسقط عنه من أعباء التكليف ما يناسب الناقص منه من مكونات الأهلية. إن تطبيق الحكم الأصليّ المجرد عن ملاحظة واقع المكلف والعوارض الطارئة الملتبسة بها يؤدي إلى غلبة الإفضاء إلى الفساد ورجحانه في الحال أو المآل، ويتمثل في لحوق الحرج الغالب أو الاضطرار والحاجة الراجحة للمكلف، أو يكون التصرف ذريعة لوقوع المفاسد والبدع، أو طريقا للتحايل على الأحكام الشرعية، ونحوها من أوجه الفساد مما يستوجب اعتبار مآلات تلك الأفعال المؤدية إلى المفسدة عند الحكم فيها، ولكن مع الحذر الشديد في تقدير ذلك. ولذا فإنه يتعين على المجتهد أن لا يغير الأحكام الأصلية وينقلها إلى حكم آخر تبعي إلا إذا تأكد له انضباط العوارض الطارئة عليه بشروطها المقررة عند الفقهاء، والتي تدل على أن عملية التغيير في الشرع تقوم على أساس قوي منضبط، وتتمثل في عدم مخالفتها لدليل شرعي، وانبنائها على مسوغ معتبر، وموافقتها لمقاصد الشرع، وأن يكون التغير الطارئ جوهريا فيكون المجتهد على درجة يقينية من العلم أو ظنا غالبا بتحققه وتحقق مصلحته، وأن يكون العارض الطارئ مطردا غالبا لا نادرا. ومن مظاهر اعتبار الواقعية في الإسلام انبناء الشريعة الإسلامية على تحقيق مصالح العباد وتكميلها، وقد ربطت الأحكام الشرعية بعللها ومصالحها، والحكم يتبع علته ويتغير بتغيرها، وخاصة في تفاصيل المعاملات التي كثيرا ما تتأثر بتغير الزمان واختلاف المكان؛ إذ إن تطبيق أحكام الشرع ليس ذلك العمل الآلي بغير تبصر ولا تدبر لحقيقة الظروف الملابسة للتطبيق؛ بل للظروف والأحوال الزمانية والمكانية الأثر الواضح في تطبيق الأحكام؛ فإن التغافل عن اعتبارها يفضي إلى تطبيق الحكم في الظرف المعين على خلاف مقتضياته المعتبرة شرعا، بما يرجع على المقاصد الشرعية للأحكام بالمخالفة والمعارضة. واعتبار تغير الظروف له أصل فقهي هو (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأحوال والأمكنة والأزمان). ومن أظهر صور ذلك ما عني به الفقهاء في العصر الحديث من تأسيس فقه يعنى بالأقليات المسلمة في البلدان غير المسلمة؛ إيمانا بأن هؤلاء يحتاجون إلى فتاوى خاصة تراعى فيها اختلاف الأحوال والبيئات وظروف الضرورة والحاجة التي يعيشونها غالبا، وما يتمتعون به من حقوق سياسية واجتماعية ونحوها، وتعالج ما يستجد معهم من تغيرات وقضايا عند تنزيل الأحكام الفقهية فيهم.