هلال بن حسن اللواتي -
إن إتقان فنون الخطاب لأمر مهم للداعية، وكثير من رؤساء الدول الذي ينتخبون يتفاجأون ولأول مرة بمنصب الرئاسة فيتطلب منهم المنصب الدخول إلى جلسات فنون البروتوكولات الرئاسية، حيث استقبال الحكام وزيارة البلدان، وخطاب الشعب والجماهير والأمة، كل هذا يتطلب إتقانا من أجود أنواعه، وهكذا هو الحال بالنسبة إلى من يتعرض إلى مثل هذه المناصب الكبيرة المهمة جدًا، والداعية أيضا يكون في مثل هذا الموضع المهم جدا، وبالخصوص في زماننا وعصرنا، حيث هناك جهل واضح عن الدين الإسلامي وعن رجالاته وشخصياتها العظمى، وهناك أيضا من يعمل على ترسيخ الفكرة السلبية عن الدين الإسلامي وعن كل ما يتعلق به لأجل هذا ينبغي على الداعية الدخول إلى دورات عالية الجودة والإتقان في فنون الخطابة وأساليبها، ويوظفها في تعليم الناس وإرشادهم، والآن سوف ننتقل إلى العنصر السابع وما يليه إن شاء الله تعالى.
العنصر السابع وهو الغذاء والخطاب، فإن الأكل والشرب يملكان من التأثير على النفس والروح، وبالتالي على خطاب الإنسان ومنطقه بشكل كبير جدا، وهذا التأثير قد يكون على كمية الخطاب، أو على كيفية الخطاب، أو على نفسية الخاطب، وعلى سلوكه بشكل تلقائي، وبدأ العلم الحديث اليوم باكتشاف الأثر للغذاء على الإنسان في مختلف جوانب سلوكه وفكره، ونفسيته، الأمر الذي ينصح به الناطق الانتباه في نوعية الأكل، وفي كمية الأكل، وفي طريقة الأكل التي تساهم في هضم الأكل، أو عدمه، وهذا بحد ذاته له تأثير على الخطاب، والمخاطب والخاطب.
وأما العنصر الثامن فهو هدف الخطاب، إن الهدف الذي يسعى إليه صاحب الخطاب، ويتحرك من خلاله هو ما يعطي لخطابه القيمة، والثمن الإنساني، ويعطيه بعدا قيميا في المجتمع الإنساني، وهذا العنصر هو ما يضفي على منطق الخاطب لباس الفضيلة، أو لباس الرذيلة، ولا يوجد في عالم الفطرة الإنسانية إن الغاية تبرر الوسيلة، فإن الهدف السامي يكون محور حركة الإنسان السامي، وإذا ما صادفته عقبات تحول دون بلوغ هدفه، فإنه لا يسعى إلى الاستعانة بالقوى النفسانية - الغضبية والشهوية والوهمية - ليدمر بها عقله، أو ليقتل بها فضيلته، فإن تحقيق الفضائل في نفسه أهم من البلوغ إلى الأهداف الخارجية التي تتعارض ومتطلبات الفطرة والحضارة الإنسانية، وغالبا ما تتحدد أهداف المرء من خلال ما يملكه من الخلفية الثقافية للكون، والحياة، وهذا ما يتحدد من خلال العنصر التاسع الذي هو الخلفية المعرفية في منطق الخاطب، فإن الخاطب يوضح في منطقه وخطابه الخلفية التي يتحرك عليها، ويبرز بها خطابه، وهذه الخلفية هي العنصر الأساسي لتحديد كل من العناصر النوع والكم والكيف والهدف للخطاب، فإن الخلفية المعرفية هي من تقوم باختيار الكلمات (النوع)، وتحدد مقداره (الكم)، وتحدد أسلوب طرحه (الكيف)، وتحدد ما ينبغي تحقيقه (الهدف)، وهنا ينبغي الإشارة إلى مسألة مهمة جدا .. وهي: إن هذه الخلفية المعرفية في الحقيقة ترتكز على أمرين مهمين وهما: الأمر الأول: المخزون الثقافي (البعد العلمي)، وهو يعتمد على: جودة المعلومات، (أ) سعة المخزون، (ب) ترتيب ملفات المخزون، (ج) القدرة على استدعائها في المكان والزمان المناسبين، (هـ) القدرة على التحكم بها كمًا وكيفًا ونوعًا، والأمر الثاني هو مستوى تحقق العدالة في النفس (البعد العملي)، ونقصد من ذلك مستوى خروج القوى النفسانية من الميل إلى أحد الطرفين الإفراط والتفريط (الرذيلة) إلى الوسطية (الاعتدال) وبالتالي يكون المرء قد حقق في نفسه العدالة الوسطى - كما سبق وأن تحدثنا في الحلقة السابقة-، ونشير هنا إشارة سريعة إلى أن القائد لإدارة النفس هو من يحدد الخطاب، كمًا وكيفًا ونوعًا، وهو من ينبئ عنه قدرته على معرفة الزمان والمكان، والأهداف التي من ورائها يكون الخطاب، وينبئ أيضا عن البعد العلمي المعرفي.
فإن الفعل يكون مخبوءا في صقع النفس، وظهوره معتمد على جوارحه، وقسمات وجهه، فإن ظهر بغضب، فإنه يدل على أن الإدارة لمملكة النفس في وقت ظهور الفعل كانت بيد الغضبية، وليصرف هذا الحكم عن ظاهره لا بد من التريث قليلا، للتعرف عن المدير الأساسي، هل هو العقل أم لا، وهذا يعرف من خلال إدارة الغضب، وكذا الحال لبقية الصفات والأفعال الصادرة من المرء، فإن التعرف على الصادر الأساسي فيها والمدير لمملكة النفس من هو بالتحديد، وهل الإدارة مؤقتة (حال)، أم أنها طويلة الأمد (الملكة)، أم أنها دائمة (تحقق واتحاد).
عودا على بدء .. فإذا حقق المرء هذين الأمرين في نفسه، فإنه يكون قد حقق أركان وعناصر الخطاب الإيجابي الصائب، واستطاع أن يمضي في حياته مضي الأنبياء والأوصياء في مسيرتهم التكاملية، فالخلفية المعرفية، تتكون من جناحي العروج إلى الله تعالى وهما أولا جناح العلم والمعرفة الذي تزود به صاحب المنطق، وهو ينعكس على القوى النفسانية الأربع ليتولد من ذلك ثانيا جناح العمل والتطبيق، فأول عمل يكون عبر القوى النفسانية، ثم يبرز عبر الجوارح.
وأما ما يتعلق بالعنصر العاشر وهو العلاقة بين النطق وسلوك الناطق فإنه لا يمكن فصل الناطق عن سلوكه، ومدى توافقهما معًا، فإن التخالف بين الفعل والخطاب لن يكون ذات أثر إيجابي، بل سيترك أثرا سلبيا على المستمع.