فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي - قاضي المحكمــــة العــليا -
وكذا إن اشترى شيئا أو استامه للشراء ثم جاء يدعي الملك فلا تسمع دعواه لأنه يكون متناقضا والتناقض مانع لدعوى الملك كما تقدم.
مثلا: إذا استام أحد مالا أي أراد شراءه ثم ادعى أن ذلك المال كان ملكه قبل الاستيام لا تسمع دعواه، وهذا بناء على رأي من جعل الاستيام إقرارا بالملك للمستام منه. وكذا على رأي من جعل الاستيام إقرارا من المستام بأن لا ملك له؛ لأن إقرار ذي اليد بأن لا ملك له وثمة أحد يدعي الملك لنفسه أو لغيره بالوكالة يبطل دعواه الملك فلا تسمع دعواه أما على رأي من لم ير ذلك إقرارا بالملك للبائع فتسمع دعواه لغيره بالوكالة.
وكذلك لو قال ليس لي حق عند فلان مطلقا ثم ادعى عليه شيئا لا تسمع دعواه، وكذلك لو ادعى أحد على آخر بقوله كنت أعطيتك كذا مقدارا من الدراهم على أن تعطيها إلى فلان فلم تعطها له وبقيت في يدك فأحضرها لي وأنكر المدعى عليه ذلك وبعد أن أقام المدعي البينة رجع المدعى عليه وأراد دفع الدعوى بقوله نعم كنت أعطيتني تلك الدراهم إلا أنني أديتها لك فلا يسمع دفعه.
وكذلك لو ادعى أحد الحانوت الذي هو في يد غيره بأنه ملكه وأجاب ذو اليد بقوله: نعم كان ملكك ولكن بعتني إياه في التاريخ الفلاني وأنكر المدعي ذلك بقوله لم يجر بيننا بيع ولا شراء قط وبعد أن أثبت ذو اليد دعواه رجع المدعي فادعى قائلا. نعم كنت بعت لك ذلك الحانوت في ذلك التاريخ لكن هذا البيع كان وفاء أو بشرط مفسد هو كذا فلا تسمع دعواه.
ادعى عليه شيئاً محدودا وأقام بينة وقضى القاضي له ثم مات فادعى المدعى عليه ذلك المحدود ملكا مطلقا، لا تسمع دعواه ولا بينته؛ لأنه صار مقضيا عليه بذلك الشيء والوارث قام مقام الموروث.
اشترى ثوبا في جراب فلما نشره قال هذا ثوبي لا يسمع، وأصل هذا لأن الاستيام إقرار بأن المال الذي استامه للشرى ليس ملكه؟
ومن ذلك: سقوط الشفعة بالمساومة فلو علم بشراء ما فيه شفعته وذهب للمشتري يستامه منه للشراء ولم يطلبه بالشفعة فتسقط دعواه الشفعة بعد ذلك وكما تسقط بالمساومة تسقط بالبيع والإجارة والإعارة لأنه في هذه الأحوال اعتراف من طالب الشفعة للمشتري بحق الشراء وإقرار له بالتملك والنزول عن حق الشفعة. وقد أجيزت الشفعة رفعا للضرر عن الشفيع على خلاف القياس لأن القياس يقتضي أن كلا أحق بماله والمشتري اشترى محل الشفعة بماله وبموجب إجازة الشارع له فجعلت الشفعة رفعا للحرج على خلاف القياس وما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه.
والحكم الذي يترتب بصورة مخالفة للقياس، لا يجوز قياس غيره عليه.
ومن أمثلة ذلك: بيع الاستصناع فقد جوز على خلاف القياس رفعا للضرر عن البشرية لضرورة التعامل بذلك والأصل أنه من باب بيع المعدوم وبيع المعدوم باطل لحديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس معك.
وقياسا كان يجب أن يكون بيع الاستصناع غير جائز، ولكن جوز استثناءً على خلاف القياس للضرورة، فلا يجوز قياس عقد آخر عليه، كما أن بيع السلم أيضا جوز على خلاف القياس، فلا يجوز اعتبار أن بيع ثمر الشجر الذي لم يظهر ثمره جائزا استنادا على جواز بيع الاستصناع أو بيع السلم؛ لأن النص بجواز الاستصناع والسلم على خلاف القياس.
لو باع شخص مالا لآخر بحضوره وسكت، أو باعت زوجة ما بحضور زوجها مالا على أنه لها، وسكت الزوج فالبيع يكون نافذا، فلو ادعى صاحب المال أو الزوج أن المال المبيع هو ماله لا تسمع دعواه، فعدم سماع الدعوى منه كان على خلاف القياس؛ لأن القاعدة «لا ينسب إلى ساكت قول» فهذا الحكم لا يقاس غيره عليه.
أما لو كان العقد الذي جرى غير البيع وكان إجارة أو إعارة، فلو أقام الدعوى ذلك الشخص الذي حضر الإجارة أو الإعارة، وادعى بأن المال ماله فالدعوى تسمع منه، كذلك لو اختلف البائع والمشتري على ثمن المبيع قبل القبض وعجز الطرفان كلاهما عن إثبات مدعاهما، فبما أن البائع والمشتري كلاهما منكر دعوى الآخر يجري التحالف بينهما، وهذا يكون موافقا للقياس.
أما إذا كان الاختلاف وقع بعد القبض فتكون دعوى المدعي هي طلبه الزيادة في الثمن، والواجب كان الاكتفاء بتحليف المشتري المنكر زيادة الثمن استنادا على الحديث الشريف القائل «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بينهما تحالفا وترادا» مع أن هذه المسألة تجري خلافا للقاعدة.
والمرء مؤاخذ بإقراره إلا إذا كان إقراره مكذبا شرعا أو كان فيه إبطال حق لغيره وعليه إذا أقر شخص بمال لآخر وادعى أنه كان عن خطأ لا تسمع دعواه. مثال ذلك: إذا ادعى شخص على آخر بدين وبعد أن أقر به المدعى عليه ادعى بأنه كان أوفى ذلك الدين فينظر إذا كان الادعاء بالأداء في مجلس الإقرار فلا يقبل لأنه يكون رجوعا عن الإقرار وتناقضا في القول إلا أن يكون متصلا بالإقرار غير منفصل عنه كأن يقول مثلا: نعم كان عليَّ ذلك لكني أوفيته إياه فهنا يكون مقرا بالحق مدعيا للوفاء ويلزمه البيان، وإذا كان في مجلس غير مجلس الإقرار بحيث يمكن حدوث الوفاء منه فيقبل ويصير مدعيا أيضا.
على أنه لا يجوز الرجوع عن الإقرار في حقوق العباد فإذا أقر شخص بأنه مدين لآخر بكذا ثم عاد فقال: رجعت عن إقراري هذا فلا يعتبر رجوعه ويلزم بإقراره إذ لا إنكار بعد إقرار إلا في الحدود فيقبل لدرء الحد بالشبهة.
فمن ادَّعى على رجل مالاً بيده فصدَّقه ثمَّ رجع فيه وقال: ظننته له فصدَّقته، فإذا أقرَّ أنَّه له، وصدَّقه على معروف فلا رجعة له فيه.
ومن مات ولم يوص وصيًّا فادَّعى رجل إلى ورثته عليه دينًا فصدَّقوه عليه، وكتبه عليهم، وأشهد، وطلبه إليهم فقالوا: خدعتنا، فقال: ضمنتم لي، ومزَّقت كتاب البيِّنة، وأبرأته وصحَّ حقِّي فيكم فهو عليهم.
ورجح العلامة الرباني في التمهيد عدم الثبوت إن كان أصله غير ثابت عليهم.
وإن ادعى وارث منهم بعد القسمة أو الإجابة إليها أن له في الأصل عطية أو شراء أو دينا وبين ذلك لم يقبل، وجوز، وكذا لا شغل بدعوة طالب قسمة بعد كالأولى.
وكذلك لو ادعى في الأصل دعوى وبين ولم تتم بوجه ثم أجاب لها وتجابروا عليها لا يجد رجوعا لدعواه إلا إن شرط حين أجاب وتجابروا.
والإقرار يظهر الملكية، ويظهر بالإقرار أن المال المقر به كان قبل الإقرار ملكا للمقر له. فعلى ذلك لا يكون الإقرار سببا للملك على قول؛ لأن الإقرار من وجه إخبار والإخبار إنما يحتمل الصدق والكذب فلا يتخلف مدلوله الوضعي، حتى إن المقر إذا أقر كاذبا فلا يحل للمقر له أخذ المقر به ديانة ما لم يسلمه المقر برضائه للمقر له وفي تلك الحالة يكون هبة ابتداء.