العوابي - خليفة بن سليمان المياحي -
حديث كبار السن عن رمضان ليس مجرد حديث عابر، إنه حديث ذو شجون، وحديث ذو عبر كثيرة يمكن الاستفادة منها في سياق الحياة الحديثة اليوم.
وفي هذه الزاوية نستمع اليوم إلى حديث الوالد يوسف بن حمد بن حماد الخروصي «87 عاما»، يقول الوالد يوسف: توفي والدي عام 1363هـ وكان عمري آنذاك 8 سنوات وقياسًا إلى ذلك التاريخ فإن عمري اليوم 87 عاما. ولدت في قرية العلياء بوادي بني خروص وكان بداية تعليمي مع المعلم سليمان بن زهران البحري، حيث تعلمت معه قصار السور، وكانت تكتب في لوح من الحجارة. فلم تكن الدفاتر والأقلام موجودة في ذلك الوقت، وكنت أتذكر أن نهاية كل أسبوع نقوم بالتهجي «أي كل واحد من التلاميذ يقرأ ما تعلمه خلال الفترة الماضية» ويوم الجمعة تكون إجازة بالنسبة لنا، وكنا نتعلم في عريش الحيل وفي مكان يسمى «الطرحان» وهو مكان مليء بأشجار المانجو، وفيه ظل كثيف. يصمت الوالد يوسف ويحاول أن يتأمل أمامه قبل أن يعود للكلام بالقول: وبعد وفاة والدي، «رحمة الله عليه»، انتقلت لقرية ستال وأقمت مع عمي الشيخ القاضي سيف بن حماد الخروصي فألحقني لأتعلم مع المعلم منصور بن مرهون المياحي.
يقول: كان هذا المعلم شديدا علينا، ولكنه رائع، فقد كان يتميز بصوته وأسلوب تعامله معنا، ورغم شدته إلا أننا كنا نستفيد منه كثيرا، فختمت القرآن الكريم علي يده، وأتذكر أنه كان يعلمنا عند سدر الإمام الوارث، ثم انتقلنا إلى منزل «الجحل» قرب مسجد الشيوبه، ثم انتقلنا إلى حلة الحجرة وكان عدد الطلاب 24 طالبا، توفاهم الله جميعًا الآن ولم يبق منهم غيري.
وقال الوالد يوسف: قرية العلياء تتميز بلطف طقسها وبرودته وكان يقصدها بعض الشخصيات من مسقط بغرض الراحة والتنزه وأذكر أن بين من كان يتردد عليها السيد قيس بن عزان، وكان يفترش أحد الأماكن المليئة بالحشائش والأشجار وسمي ذلك المكان «بزولية السيد قيس» وكان يمكث في العلياء قرابة شهرين.
وقال الوالد يوسف الخروصي: أتذكر أن وفيّات كثيرة حدثت في قرية ستال وفي العوابي، ففي إحدى السنوات توفي ما لا يقل عن 14 شخصا، ووصل الحال أن البعض كان يغسل الموتى ومجموعة كانت تنقل الجاثمين ومجموعه أخرى تقوم بعمليّة الدفن. كما أنه في إحدى السنوات أصيب عدد كبير من الناس بالرمد فمنهم من فقد عينا واحدة ومنهم من فقد عينيه الاثنتين ولم تكن المؤسسات الصحية ولا وسائل العلاج متوفرة في ذلك الوقت.
وقال الوالد يوسف: سافرت للبحرين وعمري 16 عامًا لحاجتنا للعمل وعدم توفره في البلاد وسافرت إلى المملكة العربية السعودية في عهد بن عطيشان وبن جلوي في الدمام وكان العمانيون موجودين بكثرة في دول الخليج، وأذكر أن تكلفة نقلي عبر سفينة اسمها «الدامرة» بلغت 29 روبية واستغرقت الرحلة ثلاثة أيام حيث كانت بدايتها من خور بمبا بمطرح ومررنا بدبي ثم قطر وداس حتى وصلنا البحرين، ومكثت فيها 12 يوما ثم انتقلت إلى منطقة الخبر بالسعودية وعملت فيها، ولم تكن مظاهر التطور موجودة حيث الأماكن التي ممرنا بها كانت عبارة عن خيام وعرشان وطرابيل.
وأضاف: كان والدي يعمل عاملًا للإمام سالم بن راشد الخروصي في نزوى ولما قتل الإمام رجع إلى العلياء فلم يكن يأمن على حياته للظروف التي مرت بها عمان آنذاك.
وتحدث الوالد يوسف عن صعوبة الحياة وضراوة المعيشة فيقول كان الأجير «العامل» يعمل بمبلغ 20 بيسة فقط وحتى يستطيع الحصول على قرش من فضة يجب عليه أن يعمل لمدة ستة أيام حيث القرش عبارة عن 120 بيسة، وقال لحاجة الناس للعمل وشحه كان بعض الناس يأتون من مكان بعيد ليعملوا في العلياء مع أحد أصحاب الأموال الميسورين وكانوا يقيمون هناك حتى إنجاز العمل، ووصلت قيمة جراب التمر 21 قرشًا، وقليل في ذلك الوقت من يستطيع شراءه. ولم نكن نأكل الأرز إلا في مناسبات الأعياد فقط، وكنا نأكله مع الشوي، أما بقية أيام السنة فالغداء كان الأكثر هو الخبز مع اللبن أو مأكولات قليلة من التي تنتج محليًا كالبقوليات من الدنجو واللوبيا وغيرها.
ويقول الوالد يوسف: أذكر أن الخيرات موجودة في بعض المجالات فكان أحد مربي النحل يمتلك خلايا نحل كثيرة وكان سعر وزن «من مسكد» عسل بقرش واحد فقط والمن يساوي 4 كيلوجرامات والآن قيمة العسل لا تقل من 20 إلى 30 ريالًا عمانيًا للغرشة أو القنينة الواحدة.
وعن مظاهر الصيام في الماضي والحاضر يقول الوالد يوسف: حدث تغيير شاسع، ففي الماضي كنا نفتقر إلى الخدمات الأساسية التي تساعدنا على الراحة كوجود أجهزة التبريد وغيرها، ووسائل الاتصال، فكان في الماضي يحدث أن يصبح أهالي العوابي مثلًا صائمين وأهالي قرى وادي بني خروص غير صائمين لعدم علمهم بهلال شهر رمضان فيأتي الجمّالون إلى القرية ويصلون أحيانا بعد صلاة الظهر فيبلغون الأهالي أن اليوم هو أول أيام شهر رمضان، فيمسكون عن الطعام في ذلك الوقت، وكذلك الحال بالنسبة لعيد الفطر فأحيانا يصلهم خبر العيد وقت الظهر، فيفطرون مباشرة ولكنهم يصلون سنة صلاة العيد في اليوم التالي. ويضيف: إن موائد الإفطار والسحور وتنوع الوجبات الموجودة الآن لم تكن موجودة في الماضي فالفطور كان على التمر والسمن والماء واللبن فقط، وأحيانا تقدم «العصيدة» وهي عبارة عن طحين يطبخ بالماء ثم يضاف له الحليب، أما السحور فكان من الخبز والصالونة وغالبا ما تكون مع اللوبيا أو العدس مع شيء من «الهميس والهميس عبارة عن شحم مطبوخ على النار مع قطع صغيرة من اللحم أيام الأعياد».
ومن الأحداث التي شهدتها هطول أمطار غزيرة منذ نحو 60 سنة وجرت إثرها الأودية والشعاب بشكل جارف وهي ما تسمى محليا «جرفة صفر» فأذكر أننا كنا نصلي في مسجد الحيل وما هي إلا لحظات حتى انهمرت الأمطار بشكل مفاجئ وسريع وما هي إلا لحظات حتى جرت الأودية، فلم نستطع العودة إلى منازلنا، فتهدمت المنازل وسقطت الأشجار وخرج الناس ولجأوا إلى كهف قريب حتى هدأت الأوضاع.
وعن التنقل وصعوبته يقول: كنا نتنقل بواسطة الأقدام ونستعين بالحمير وكنا نذهب من قرية العلياء أول الصباح ونصل إلى ولاية نخل بين العصر والمغرب وطبعًا كنا نستريح في الطريق لتناول وجبة الغداء ونريح الدواب.
وأخيرًا يقول الوالد يوسف في عام 1972م عملت في المركز الصحي بالعوابي الذي كان أول مؤسسة صحية بالولاية.
وعن حياته في رمضان الآن يقول: الحمد لله رب العالمين بعد أن أفطر مع الأسرة أصلي المغرب ثم نعود لنأكل ما تيسر من الطعام ثم نصلي العشاء والتراويح «في البيت» بسبب الظروف الراهنة ثم نرمس مع الأسرة وبعد أخذ قسطا من النوم نقوم لقراءة القرآن وللسحور ثم لصلاة الفجر.