مشاهد من وحي ألم الفراق المرير -
كان تشييع القائد الراحل مهيبا كلل بالوقـار وبعظـمة احتـرام الفقدان -
كتب ـ وليد جحزر -
مرت سبعة أيام على فقدان الراحل الكبير السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، ولا يزال المواطنون العمانيون يذرفون دموع الأسى ، ويكابدون ذكرى النبأ الأليم الذي سيبقى في الذاكرة والوجدان لسنوات طويلة لن تمحى أبدا.
فعلاقة المواطن العماني بقائده ليست مجرد علاقة حكم عابرة ، إنها باختصار صيرورة انتماء للأرض والوطن بالدرجة الأولى ، حيث جسد السلطان بمشروعه الوطني على امتداد سنوات حكمه ، ذاكرة ارتباط بكل معنى جميل ، فبه ومعه عرفت عمان والعمانيون عهدا جديدا من البناء والرقي والتحديث ، وخلال مسيرته الحافلة بالعمل الذي لا يتوقف ، كان المواطن العماني هو رأس مال الرهان وحجر الزاوية في تشكيل الحاضر الجديد والمستقبل المشرق.
ويبقى السؤال الذي نجيب عنه في هذا الاستعراض توثيقًا للحظة حزينة وباكية غارقة في دلالات الحدث الذي هز أفئدة العمانيين وقلوبهم ، كما لم يحدث منذ سنوات بعيدة ، أنه السؤال الصعب: كيف استقبل العمانيون نبأ رحيل السلطان قابوس بن سعيد؟ ؛ لنرصد طبيعة المشاعر التي غمرت اللحظة الفارقة وعكست حجم الارتباط الوجداني الصادق بين شعب وقائده ، لم يكن بينهما غير الحب والوفاء والكثير من تفاصيل الانتماء للوطن الواحد ، من أجل عهد قطعه القائد الملهم على نفسه باكرًا « سأعمل بأقصى ما يمكن من أجل أن تعيشوا سعداء» وأي عهد أنقى من هذا في علاقة الشعوب بحكامها ، إنها إذن خسارة لا تقدر بثمن.
بكاء وترقب
جاء النعي الصادر من ديوان البلاط السلطاني على شاشة تلفزيون سلطنة عمان قرابة الرابعة من فجر يوم السبت 11 يناير من العام الجديد 2020 ، ليبث النبأ الحزين برحيل جلالة السلطان قابوس بن سعيد ، عبر بيان موجه إلى أبناء الوطن العزيز في كل أرجائه وإلى الأمتين العربية والإسلامية وإلى العالم أجمع ، وهو النعي الذي فجر الدموع في المآقي ، وأصاب الحناجر بغصة النحيب وحشرجة البكاء ، لينتشر النبأ الفاجع بسرعة البرق في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي ، في حين بدأت قنوات التلفزة العربية الأبرز بمتابعة الحدث الجلل ، بشريط عاجل قبل أن تبادر بالاتصال بمتحدثين يواكبون التغطية المباشرة في نقل نبأ الرحيل الصادم للمتابعين في أرجاء الوطن العربي الكبير وإلى محبي القائد الرمز في مختلف أنحاء العالم .
تسمر المواطنون أمام شاشات التلفزة يستمعون للبيان الذي أكد بأن وفاة السلطان «جاءت بعد نهضة شامخة أرساها خلال خمسين عاما منذ أن تقلد زمام الحكم في الـ 23 من شهر يوليو 1970 ، وبعد مسيرة مظفرة حافلة بالعطاء شملت عمان من أقصاها إلى أقصاها وطالت العالم العربي والإسلامي قاطبة وأسفرت عن سياسة متزنة وقف لها العالم أجمع إجلالا واحتراما» ، بينما هرع البعيدون عن شاشات التلفاز للالتحاق بجموع المواطنين المفجوعين ، وقد مرت لحظات إعلان بيان النعي على النفوس الوجلة وكأنها دهر من الزمان.
وبعد لحظات قليلة فقط من إعلان النبأ الحزين كانت كل البيوت العمانية قد استيقظت ولم يغمض بعدها جفن لكل من سمع نبأ الرحيل إذ علا النحيب وترقرقت الدموع ، وأقبل المواطنون والمقيمون على السواء يعزون بعضهم بعضا بهذا المصاب الذي طرق أبوابهم عند الفجر، كانت دقائق مهيبة باكية وصعبة وعامرة بالأسى والترقب.
تسمية السلطان الجديد
كان بين إعلان بيان النعي وتسمية وتثبيت السلطان هيثم بن طارق بن تيمور أقل من 3 ساعات كفارق زمني، عندما انعكست الحكمة العمانية في أعظم تجلياتها بذلك الاجتماع الذي عقد بين مجلس العائلة المالكة وأعضاء مجلس الدفاع الوطني الذين أداروا عملية نقل السلطة بكل حنكة واقتدار بطريقة نقلت للعالم أجمع صورة عمان الحقة التي تربت ونشأت طوال سنوات بين يدي قائد عظيم عرف كيف يؤمن مستقبل السلطنة الواعد برسالة طرزت في عباراتها معاني الاعتصام والتوحد ونبذ الخلافات والفرقة ، على نحو بالغ الروعة والرقي ، وبطريقة حكيمة رسمت المسار القادم لسلطنته الحبيبة التي أسس دعائم مجدها وساس بنيان نهضتها بعزيمة لا تعرف الكلل ، وصولا للحظة الموعودة بتتويج القائد الجديد الذي استبشر به العمانيون في أن يكون خير خلف لخير سلف وهو النبأ الذي طمأن القلوب، على الغد القادم ، بيد أن النفوس كانت لا تزال ترغب في أن تشارك بتشييع جثمان الراحل الكبير، أخذ الجميع بعدها يتساءل عن موعد مراسم الدفن للمشاركة في الجنازة وما إن أعلن المكان والزمان حتى حاول الآلاف من المواطنين الوصول إلى جامع السلطان قابوس الأكبر رغم الإجراءات الأمنية المشددة.
تفطرت القلوب حزنًا
كانت جنازة السلطان الراحل مهيبة كللت بالوقار وعظمة الفقدان والرحيل كدرس بليغ أراد السلطان الراحل من خلالها إيصال رسالته الجليلة ، كعادته في إيصال الدروس والقيم ليشاهد العالم جنازة استثنائية طبعت بطابع الدقة والتنظيم شارك فيها المواطنون الذين ارتصوا على جنبات الطرقات لأداء التحية الأخيرة، حيث أطلقت الدعوات والابتهالات إلى الله بالرحمة لروح السلطان القائد والأب الذي لم يكن فراقه ليكون سهلا على الأنفس التي اعتادت أن تراه وأن تستأنس برؤاه السديدة وحكمته البليغة على مدى خمسة عقود.
كان البكاء عند مرور موكب التشيع هو سيد الموقف ، في كل الأمكنة وخلف الشاشات وفي الطرقات العامة وعند سماع البث المشترك لأثير الإذاعات المحلية ، مرت جنازة السلطان الراحل ومعها مر طيف لعهد زاخر بالمحبة والعطاء عمره 50 عاما لم يعرف فيه أبناء عمان غير الخير والبناء والتنمية من قائد استثنائي قلّ أن يلد التاريخ مثله بشهادة زعماء وقادة العالم الذين دبجوا معاني الرثاء الخالص بالعديد من كلمات التقدير والثناء لجلالة السلطان الراحل ودوره العظيم في تحقيق السلم العالمي وترسيخ مبدأ التعايش بين الأمم .
مكاتب الولاة تفتح أبوابها
كان المشهد مؤثرا وبالغا في تأثيره ، ونحن نشاهد المواطنين يتجهون زرافات ووحدانا إلى مكاتب الولاة لتبادل التعازي في فقيد الوطن الكبير ، فتحت الأبواب على بعضها في القرى والأرياف وفي أقاصي البلاد وعمقها ، لم يكن غير الرثاء هو الحاضر في تعابير المتقابلين وفي تحيتهم اليومية ، في اللحظات الممتلئة بالأسى وفي استقبال قطرات المطر الباكية وسماع نحيب الريح وهو يطرق الأبواب بعنف مشاركا الأرواح الحزينة ساعات الفراق العصيب.
يقول أحد المواطنين من كبار السن إن ركبتيه لم تعد تقوى على حمله، إنها مشاعر عمانية فياضة بالصدق والتجرد ، لقد ضرب السلطان الراحل أروع الأمثلة في الإيثار والتضحية بالوقت والعمر من أجل رخاء عمان وسعادتها ، وقد قالها بصريح العبارة ذات يوم في حديث صحفي «أعيش من أجل شعبي وسأموت لأجله» ، ولذا فمن الطبيعي أن ينال السلطان الراحل كل هذا الحب الجارف وكل هذه الشهادات الخالدة من أفواه الناس العاديين.
مشاهد أكثر صعوبة
ترك السلطان قابوس القلوب خاوية على عروشها والأرواح معلقة بأمنية مشاهدة طلته مجددا، الكثيرون ذهبوا إلى المقبرة بعد الدفن في عين غلا بمسقط ، اكتظت الجموع وتقاطر العمانيون من كل حدب وصوب لقراءة الفاتحة على مقربة من مدفن السلطان الراحل ولا يزال المواطنون يتوافدون إلى المقبرة التي حوت جثمانه الطاهر ، في مشهد نوعي نادر وفريد يعبر عن عمق المحبة ومبادلة الوفاء بالوفاء، النساء والشيوخ والأطفال ، دون استثناء عاشوا مرارة الفقدان، بدت الشوارع حزينة ولم يتوقف المطر ولا الدموع عن سكب العبرات ، وثقت الكاميرات المشاهد الأكثر صعوبة لرجال الأمن والشرطة وهم ينظمون حركة السير في جنازته ويبكون في الوقت نفسه ، كما أن الموظفين في الأعمال التي تقتضي المناوبات خلال فترة تعطيل الدوام حدادا تعانقوا مواسين بعضهم بحجم الفقدان المرير ، الأصدقاء في اتصالاتهم يرسلون التعازي وكبار السن في صلواتهم يبتهلون إلى الله بتغمد روحًا لم تعرف غير التواضع والإخلاص وشيم العشق للوطن.
نهضة متجددة
في اليوم التالي للوفاة أصدرت غرفة تجارة وصناعة عمان بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة بيانا ألزمت فيه التجار بعدم إغلاق المخابز والمحلات التجارية ونقاط شراء الأغذية الأساسية ، عملا بالصالح العام ، بعد أن كانت العديد من المحلات قد أغلقت أبوابها تعبيرا عن الحزن بهذا الفقدان ، وبالرغم من كل مظاهر الحزن والأسى فإن مدن السلطنة وولاياتها بدت خلال فترة الحداد في حالة من التعافي التام ، كل شيء سار بحيويته المعهودة و النابضة بالحياة
وها هي عمان اليوم في أبهى صورة كما تركها السلطان الراحل ، من حيث الحفاظ على الاستقرار والمضي في ترسيخ نهج دولة النظام والقانون ، وهو ما عكس حالة من الثقة تجاه المستقبل الواعد .
حزنت الأرواح والقلوب حقا وتهجدت الألسن بأدعية الغفران والرحمة للراحل السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه-، وستبقى النفوس حزينة على فقدان أعز الرجال كما وصفه خلفه السلطان هيثم بن طارق بن تيمور -حفظه الله ورعاه- في خطابه الأول، لكن الوجوه العمانية التواقة لمزيد من النجاحات رفعت أعناقها متطلعة لمعايشة نهضة متجددة يقود خطاها السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- منطلقا بها نحو أفق جديد، نهضة مبنية على أسس قوامها وعمادها هو ترجمة رؤية عمان 2040 التي جاءت بخطى مدروسة تستلهم التطلعات العريضة وتؤسس لمرحلة وثابة نحو مزيد من التقدم والرخاء .