ناثان سكوت مكنمارا -
ترجمة : أحمد شافعي -
في أغسطس من عام 1968 غزا الاتحاد السوفييتي تشيكوسلوفاكيا. كتب ميلان كونديرا عن الدبابات وهي تتقدم في شوارع براج في كائن لا تحتمل خفته. اقتيد الرئيس التشيكوسلوفاكي ألكسندر دوبتشيك إلى الاتحاد السوفييتي فأرغموه هناك بالقوة على توقيع «تسوية موسكو». ونجا بذلك الكثيرون من الإعدام والترحيل الجماعي إلى سيبريا ولكن التسوية أخضعت الشعب التشيكي أيضًا لغازيه السوفييتي. وكان من جملة الخسائر التي مني بها الشعب التشيكي تضييق شديد على السفر والعمل. طالبت التسوية بقمع جماعات المعارضة وقضت على حرية الصحافة. و«لما رجع دوبتشيك» حسبما يكتب كونديرا «ألقى خطابًا إذاعيًا. بدا محطمًا بعد اعتقاله ستة أيام فكان الكلام لا يكاد يخرج من فمه، وظل يتهته ويلتقط نفسه.. وانتهى الكرنفال. وبدأت المذلة».
للكتاب العاملين في ظل الطغيان أو النفي تاريخ طويل، ولكن لكل مثال قساواته الفريدة. في ما بين 1968 و1989 عاش الكتَّاب التشيك من أمثال ميلان كونديرا وبوهوميل هرابال في ظل وضع مستحيل. كانا يتكلمان ويكتبان بالتشيكية وهي لغة مقصورة على جزء صغير للغاية من وسط أوروبا، وهي كذلك لغة واقعة تحت هيمنة حكومة استبدادية شديدة الحساسية.
في عام 1967، أي قبل عام من الغزو، كان كونديرا قد نشر روايته الأولى «المزحة». وحقق ذلك الكتاب نجاحا عريضا في تشيكوسلوفاكيا، إذ صدر في ثلاث طبعات كبيرة متلاحقة بما جعل من كونديرا نجما أدبيا. لكن الرواية سرعان ما لفتت انتباه الحزب الشيوعي. وفي أعقاب الغزو السوفييتي، تعرض كتاب كونديرا للحظر ومنع من المكتبات. وفصل كونديرا من وظيفته كأستاذ في مدرسة براج للسينما.
غير أن كونديرا بقي يعرب عن تفاؤله إزاء حياته ككاتب وإزاء مستقبل بلده. ففي ديسمبر 1968 نشر مقالة قال فيها: إنه يرفض أن يصف الوضع السياسي بالكارثة الوطنية. وقال: إن «ما حدث هو شيء لم يكن يتوقعه أحد: فقد تمخض الصراع المخيف عن سياسات جديدة. صحيح أن ثمة تراجعا، ولكن لم يحدث انكسار، ولم يحدث انهيار». ونفى وجود قيود كانت قد أسفرت عن نفسها تمام السفور. «لم تقم من جديد الدولة البوليسية، لم تفرض قيود عقائدية على الحياة الفكرية، ولم تحدث إدانة للذات أو خيانة للمبادئ أو تسليم للشعب... والأمل عظيم في المستقبل. وليس المستقبل البعيد، بل المستقبل القريب».
لكن بحلول عام 1975 يئس كونديرا. وجد نفسه عاجزًا عن النشر وعن العمل فهرب من تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا. وهناك كتب أشهر كتابين له وأكثر كتبه اشتباكًا مع السياسة، وهما كائن لا تحتمل خفته وكتاب الضحك والنسيان. ثم لم يتسنّ نشر كتبه في تشيكوسلوفاكيا. وفجأة لفت كونديرا انتباه العالم كله إلا الشعب الذي يمثله. حتى في حقبة ما بعد السوفييت لم يحتضنه وطنه، وذلك جزئيًا لأن الكثيرين بقوا يرونه خائنا. تكتب الباحثة الأدبية هانا بيتشوفا أن «ظهوره نادر، وأنه قليلا ما يدلي بحوارات. ويزور بلده متنكرا (متخفيا على سبيل المثال بشارب مستعار)، ولا تلقى أعماله بصورة إجمالية إلا استقبالا فاترا في أحسن الحالات». فلم تصدر كائن لا تحتمل خفته -وهي أشهر كتب كونديرا في العالم كله- في جمهورية التشيك (تشيكوسلوفاكيا السابقة) إلا في عام 2006، أي بعد سبعة عشر عامًا من سقوط الشيوعية.
***
أما بوهوميل هرابال، معاصر كونديرا وابن بلده، فقد حاول أن ينأى بنفسه عن السياسة. فاستعمل منهجا في الحكي يعرف بـ«اللغو palavering» الذي يجتنب النقد السياسي. ويمكنكم تصور اللغو بوصفه إفراطا في التهويم، ومحاولة للانطلاق والانطلاق في الكتابة. وصف هرابال عمّا له بوصفه لاغيا، حكَّاء لا يتوقف عن حكي القصص كان «يجلس إلى المنضدة ويحملق في السقف ويرى ما يفكر فيه عاليا فوق رأسه».
الاغل الأساسي لروايات هرابال القصيرة وقصصه هو العامل الإقليمي المشغول بأيامه ـ بمسرات الطعام والشراب، والسعي إلى الحب والجنس ـ عن كل ما يحدث في الحكومة. «قطارات تحت الحراسة المشددة» على سبيل المثال كوميديا تهويمية عن عمال السكة الحديدية. «دروس الرقص للمسنين» مروية على هيئة مونولوج يلقيه راو سكران يحاول تسلية مجموعة من النساء المستلقيات في حمام شمسي. لكن شخصيات هرابال مقيمة في تشيكوسلوفاكيا، ولا تستطيع اجتناب كل أوجه العبث والنفاق في أوروبا القرن العشرين، وإن كان النازيون يظهرون في قصص هرابال أضخم وأخطر من الشيوعيين.
وبحسب ما يقول آدم ثيرويل فإن «كتب هرابال كانت دائما متشابكة مع التاريخ الذي تحاول الانفلات منه، والتحولات في الانحيازات السياسية. من وراء دقة أسلوبه تكمن دائما سياسات براغ» استطاع هرابال أن ينجو ببيته في تشيكوسلوفايا ولكن بثمن إبداعي وسيكولوجي باهظ. «فعلى مدار خمسة عشر عاما عاني فترات عديدة من حظر الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي لأعماله» حسب ميجان فوربس الذي يضيف أنه «في عام 1975، أدلى في حوار معه بتصريحات سياسية تصالحية، بالتزامن مع إرساله إشارات عبر أوساط المعارضين مكَّنته من الرجوع للنشر». وكان المتظاهرون المناهضون للشيوعية يحرقون كتبه في الشوارع.
كتب كونديرا في فن الرواية الصادر سنة 1986 أن «الروائيين العظماء في وسط أوروبا يسألون أنفسهم ماذا بيد الإنسان من إمكانيات في عالم بات شَرَكا، في الجمهورية التشيكية ـ تشيكسلوفاكيا ـ الإمبراطورية النمساوية المجرية ـ تمتد هذه الفكرة الأدبية رجوعًا إلى فرانز كافكا، اليهودي الناطق بالألمانية الذي عاش حياته كلها في براج وغالبًا ما كان ممسوسًا بمثل هذه الأسئلة. فـالمحاكمة موضوعها رجل يعتقل لأسباب لا يوضحها من يعتقلونه. وهناك جريجوري سامسا المقلوب في ضعف على ظهره.
تبدو يد النظام السوفييني الخانقة سافرة في ما نشره هرابال بعد الغزو وتعرض للرقابة. فـجوزيف شكفوريكي يشير إلى تعديل مسار حادث تعرضت له الشخصية الأساسية في رواية «ملايين المهرج» لهرابال.
في الطبعة الأصلية التي استعيدت الآن:
«حينما ترك بابا المكتب، كان هذا ما ينتظره مدير العمال، تناول المصباحين بمظلتيهما الخضراوين ورماهما من الشباك على كومة من الخشب والحطام، فتهشمت المظلتان والأسطوانتان قطعا وأمسك بابا برأسه وبداخلها صوت انهيار، وكأنما تهشم بابا نفسه. قال مدير العمال وهو يدخل مكتبه «ها هنا العصر الجديد يبدأ أيضا»».
في النسخة الثانية المنشورة في وقتها:
«حسن، ما رأيكم يا رفاق؟ هل نتحلى بالشهامة؟ خذوا المصباحين ليكونا تذكارا من الأيام الخوالي التي طابت لكم».
ولم تكن تلك هي الدولة الشيوعية المرنة التي أمل فيها كونديرا في يوم من الأيام.
تحكي أعظم أعمال هرابال «عزلة لا يحتمل صخبها» قصة صانع ورق سكير: «لخمسة وثلاثين عامًا أعجن الورق المهمل والكتب القديمة، ألوث نفسي بالحروف. عجبنت منها وحدي نحو ثلاثة أطنان على مدار السنين». ومن أنصع أشكال العبث في هذه القصة أن الراوي يجد متعة كبيرة في عمله. فحينما يعرف أن هناك آلةً عملاقةً لعجن الكتب قد تبيد بسببها مهنته يرجع إلى عمله الصغير مقررًا رفع كفاءته بنسبة خمسين في المائة. يكتب ثيرويل أن «مثل ذلك كان القاعدة الأخلاقية لفرار هرابال من السياسي ... موقف المفارقة الصارخة».
تلك المفارقة كانت حاسمة بالنسبة لقدرة هرابال على الكتابة في تشيكوسلوفاكيا السوفييتية، ولكنها لم تنفعه كثيرا. فحتى عام 1989، وشأن كتب أخرى كثيرة لهرابال، كانت رواية «عزلة لا يحتمل صخبها» متاحة أغلب الوقت خارج بلده فقط، أما بداخله فلم يتسن نشرها إلا من خلال الـسمايزدات وهي مبادرة سرية للنسخ والتوزيع في أوروبا الشيوعية لم تكن تنتج أكثر من عشرات النسخ من كل كتاب. وفي النهاية انصاع هرابال للدولة إلى حد هائل، لدرجة أن أدار ظهره لكثير من أقرانه. ولكنه لم يبال.
***
يكتب كونديرا في كتاب الضحك والنسيان أن ميريك قد «انتهى به الأمر إلى تبني رأي أصدقائه الذين كانوا أكثر حذرًا منه» مستعيدًا عصر ما قبل الغزو في براج. «صحيح أن الدستور كان يضمن حرية التعبير، لكن القانون كان يعاقب كل فعل يمكن تفسيره باعتباره مستهدفًا سلامة الدولة. ومن ذا الذي يستطيع أن يتكهن متى ستصرخ الدولة بأن هذا الشيء أو ذاك يستهدف سلامتها؟»
من النجاحات الأساسية التي حققها النظام السوفييتي المسيطر على تشيكوسلوفاكيا هو إشاعته خوفًا عامًا وجعله التشيكيين يرتابون في بعضهم بعضًا. ولقد تعرض كونديرا لنبذ كبير في وطنه، وفي عام 2008 اتهم بالتعاون مع الشرطة الشيوعية. وقرب نهاية حياته استطاع هرابال أن يرى مدى جبنه، ففي الثانية والثمانين من العمر قفز من شباك الطابق الخامس من مستشفى فلقي مصرعه.
تكريم ذكرى هذين الرجلين أمر مهم ـ فكتبهما استعيدت الآن وأتيحت، ويمكن قراءتها بارتياح، ولكن القصة الأعمق هنا هي ما جرى لهذين الكاتبين وهما تحت الحكم الاستبدادي. غير أن كل قصص الكتاب والفنانين التشيكيين الذين أمكنهم البقاء عبر تلك الفترة والاستمرار في الإبداع تغفل أولئك الكثيرين الذين لم يتمكنوا من مثل ذلك، فنقلوا قسرًا إلى الريف، وأكرهوا على العمل في المصانع، وعلى الصمت.
وليس بقاء الكاتب في ظل حكم لا يمكن التنبؤ بمواقفه أمرًا مفتقرًا إلى الأهمية اليوم. فإليف شافاق كتبت أخيرا مقالة أساسية عن إسكات الكتاب في تركيا تقول فيها «لقد وجدنا أنفسنا أسرى زنازين صغيرة زجاجية الجدران، وحتى صداقاتنا القديمة تقطعت أوصالها». وعلى مستوى أدعى إلى إثارة الرعب، يمكن تأمل ضحايا حلب وهم يختفون من تويتر بينما تقصف مدينتهم ويطلق الجنود الرصاص على المدنيين في شوارعها.
والنذر تتعالى الآن حتى في الولايات المتحدة إذ يهدد رئيسنا المنتخب منافسيه، ويرهب المواطنين، ويحذر من إصدار قوانين للقذف ليتعرض في ظلها الصحفيون: «لما لم يتعرضوا لمثله قط من ملاحقات قضائية». بل لقد حمل لنا الأسبوع الماضي وجه شبه أليما بين انتخابات 2016 الرئاسية الأمريكية وغزو تشيكوسلوفاكيا سنة 1968: ذلك هو دور روسيا. ليست لدينا دبابات روسية تنطلق في الشوارع، لكن القرصنة الرقمية والتلاعب بالانتخابات يبدوان أقرب إلى صدى معاصر للدبابات. فهو أمر هرابالي في عبثيته، يوشك أن يبلغ مبلغ الكوميديا السوداء. وشأن كونديرا سنة 1968، بوسعنا أن نتمسك بالأمل حتى في المستقبل القريب. ولكن علينا أن نبقي في أذهاننا أن المستقبل القريب لم يأت لكونديرا بما كان يرجوه. ولم يأت بشيء لهرابال الذي انصاع هو الآخر.